وما دمنا خلصنا إلى براءة الدّين الإسلامي الحق في تعاليمه وطقوسه من عدم مواءمته للعلم والنهضة، فأين يكمن الخلل؟ ولماذا لم يمتلك المسلمون منذ اعتناقهم الدّين الإسلامي قصب السبق في شتى مناحي العلوم ويحافظوا عليها، ألم تكُ لنا الفرصة التاريخية لامتلاك التكنولوجيا قبل الغرب على الأقل بخمسة قرون إنْ لم تزدْ؟ إنّ الحقيقة تكمن في مجموعة من العوامل، ولم يكن للإسلام بوصفه ديناً للمسلمين علاقة بها أبداً، فالإسلام جاء إلى أمّة هم العرب في بادئ الأمر، ولم تكن حياة البداوة لتساعدهم على التعلّم وبناء حضارة تأخذ بأسباب العلم، وحين اتصل الإسلام بالأمم الأخرى المتمدنة قياساً بالعرب، كان الإسلام باعثاً لها على الأخذ بأسباب العلم في شتى مناحيه، كالهنود والفرس وغيرهما، ولمّا وجدتْ المدنية طريقها للعرب، مضوا في ركابهم في الأخذ بأسباب العلم. لكنّ الاشتغال بالحروب طوال قرونٍ من عمر المسلمين، ساهم إلى حدٍّ كبير في عدم تطوّر الطرائق العلمية الموصلة إلى التكنولوجيا على سبيل الاختصاص. وأنا هنا أخصُّ التكنولوجيا بحديثي لأننا لم نردم الهوّة السحيقة التي بيننا وبين الغرب في هذه المسألة التي جعلت الغرب يسيطر علينا. فلم يكن هناك حاجة -كما اعتقد بعض المسلمين مثل سلاطين بني عثمان - إلى مزيدٍ من المخترعات طالما يجدون النصر بعقيدة راسخة، وبوسائل تقليدية للنصر على الأعداء، وكانت العرب، تأنف من بعض الصناعات وتعتبرها من نواقص المروءة، فالكيمياء علم الصنعة - كما يُطلق عليها - جعلتْ بني أمية يستلبون الخلافة من خالد بن يزيد لأنه اشتغل بها، والفلاحة والرعي، كانت للموالي، والحروب والطعان كانت للفارس العربي، وما ينطبق على الفلاحة والرعي، كان ينطبق على الاشتغال ببعض العلوم التجريبية، والحق يُقال: لقد كانت هذه العلوم تجدُ تطوّراً ملموساً على يد المسلمين من غير العرب. لكنّ تجربتين فريدتين كانت بداية للتطوّر العلمي الجاد قد حدثت أولاها في عهد المأمون الذي اشتهر عصره بالترجمة، وبتشجيع العلماء، وفي الأندلس حين شيّد الأمويون الجامعات. ولقد أٌصيبت التجربتان بنكسات متعددة، وكانتْ بداية النهاية لامتلاك العرب والمسلمين قصب السبق في الأخذ بأسباب العلوم التطبيقية، وإذا كانت العلوم الأخرى في فروعها المختلفة قد نالها النصيب الأوفر حظا من التطوّر؛ فهي علوم إنسانية لم تُغنِ فيما بعد عن العلوم التطبيقية، التي مكنتْ الغرب من امتاك الآلة البخارية والطائرات والسيارات ووسائل التفوق التقني على من سواهم من الأمم.
لقد كان الإسلام الحقّ، بريئا من تخلّف المسلمين وتقوقعهم بعد مرحلة العصور الوسطى التي شهدتْ تفوقهم العلمي. بل إنّ بُعدهم عن الإسلام هو من الأسباب التي جعلتهم يتخلون عن قصب السبق العلمي الذي كانوا عليه. فالحروب، واشتغالهم بها، وأنفتهم التي جعلتهم يأنفون من بعض الصناعات العلمية- ومع الأسف لا زالت هذه الأنفة موجودة لدى بعضهم- واشتغالهم بالعلوم الأخرى، جعلهم أبعد ما يكونون عن وضع القدم الأولى في طريق التكنولوجيا، أما ما تذكرهُ كُتبُ تاريخ العلوم عند العرب، وهي بالمناسبة تشبه بعضها بعضا؛ فهي تتغنى بحالات فردية، وبعلوم تطبيقية لم يكتب لها البقاء لأسباب كثيرة سآتي على ذكرها في مسائل أخرى بالتفصيل.
- د.سعد الثقفي
Zakyah11@gmail.com