يقول الشاعر الفلسطيني المقاوم أمل دنقل:
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما...
هل ترى؟
هي أشياء لا تشترى..
أنا أملك عينين- والحمد لله- ولكن السؤال يبقى مثل السوس ينخر تفكيري... هل أرى؟.. يقولون بالأمثال الشعبية عن الجاهل أو قليل المعرفة أو محدود التجربة، أنه أعمى بصيرة، وأنا متأكد أنني لست ضريراً بالرغم من النظارة المستقرة أمام عيني، ولكنني لست متأكداً هل أنا أعمى بصيرة أم لا؟.. وهل أنا قادر للإجابة عن هذا السؤال؟ أو هل هو من حقي الإجابة على هذا السؤال أم هو حق الآخرين؟ وإذا كان حق الآخرين هل يتوجب علي أن أسأل البشرية واحداً تلو الآخر هل أنا أعمى بصيرة؟ ..هذا مستحيل بالطبع.. وبالرغم من علاقاتي الواسعة، إلا أن معارفي مختلفون في قربهم أو بعدهم عني ولكل منهم انطباعه، وله مزاجه الشخصي أيضاً، فربما يقول لي أنت لست أعمى بصيرة، أو أنت مثقف، من باب المجاملة وهو يضمر شيئاً آخر، أويقول لي أنت جاهل لمجرد الاستفزاز!
إذن لابد من الاعتماد على الذات وتقصي الحقيقة بكل الطرق الممكنة، فأنا لا أريد أن أكون أعمى بصيرة، ولا أقبل أن ينعتني أحد بهذا الوصف الشائن!.. ما العمل إذن؟.. بادئ ذي بدء إذا أردتُ أن أقرأ ذاتي في عيون الآخرين وأقوالهم وتعليقاتهم الساخرة أحياناً، فأنا متوسط المعرفة والثقافة وشهادتي الجامعية ليست دليلاً على المعرفة إلا في مجال اختصاصي فقط. وهذا التوصيف يرضيني تماماً، فأنا لا أطمح أن يصنفني أحد أنني من النخبة والعياذ بالله! مثلما لا أرتضي أن أكون جاهلاً في نظر الآخرين. ولكن مقدار المعرفة لا يجيب عن السؤال الذي أبحث عنه. وإذا استنهضت ذاكرتي البائسة وأجريت مسحاً لدراستي حتى نهايتها، فقد تعلمت منذ البدايات الأولى أن أستوعب ما يقوله الأستاذ، بل أحفظه وأردده وأستمتع عندما أنال من الأستاذ كلمة شاطر وأحزن إن لم يقل ذلك!.. مهلاً.. مهلاً، أين بصيرتي إذن؟
يقول مؤسس علم النفس فرويد: يصبح لدى الطفل ذات مستقلة عندما ينطق بكلمة (أنا)، أي أن البصيرة هي الذات المستقلة، أي عندما تفكر أنت ما هو الصح وما هو الخطأ، وليس أن تقبل ما يقوله الوالد أو الأستاذ أو البروفيسور أو الإعلام أو الإنترنت أو أي مصدر آخر للمعلومات، كما هو دون تفكير، أي لا يجوز لك أن تكون امّعة! .. طالما وهبك الله سبحانه صفة الإنسانية فلا تفرط فيها بالرضوخ للتلقين. بصيرتك هي تراكم تجربتك أنت الذاتية إضافة الى تجربة الآخرين، ففي الطفولة تكون تجربتك محدودة، وبالتالي تتعلم من العائلة الصغرى والكبرى والمدرسة والشارع بمقدار ما اكتسب المجتمع من معرفة تاريخية وجغرافية وكونية.. وتتضاءل الحاجة للتجربة الاجتماعية كلما تقدم بك العمر، ثم تصبح بالضرورة معلماً للآخرين، حتى لو كان الأمر مقتصراً على أولادك وحسب.
للمعرفة أُصول أثبتها العلم ولا يجوز تخطيها إلا إذا كنت مصراً على أن تكون إمّعة، وهي الملاحظة ثم الفرضية ثم التجربة ثم النظرية، أي أنك لا تصل الى الحقيقة إلا بالتجربة، ولذلك يقال «التجربة مقياس الحقيقة»، والتجربة قابلة للتحقق في المسائل العلمية، ولكن إذا جاءك أحد ما وقال بثقة عالية: إذا فعلت كذا وكذا فسيكون لك قصر في الجنّة، به مليون من الحور العين، لكل واحدة منهن مليار وصيفة! كيف تخضع ذلك للتجربة؟ هل ستذهب للجنة كي تتأكد؟ وإذا نشرت جهة إعلامية ما، أن مظلياً قفز في سماء روسيا، واجتاز أوروبا الشرقية والغربية والمحيط الأطلسي ليهبط في لاس فيغاس ويفجر نفسه بحذاء ناسف في سوق للقمار!.. كيف تتأكد بالتجربة من صحة أو عدم صحة هذه المعلومة؟ هل ستطير الى لاس فيغاس؟ .. مستحيل أن تفعل ذلك إلا إذا كنت إمعة! إذن ما هو الحل؟
الحل في مثل هذه الخزعبلات هو بالتفكير الذي لا يمكن توفره إلا بالذات المستقلة، ولا يجوز الخوف من الخطأ، حيث إن من لا يعمل أو لا يفكر لا يخطئ، والخطأ هو طريق الوصول الى الصواب، أما إذا كنت أداة طيعة بيد الآخرين فأنت ترفض الحقيقة ولن تصل إليها قط.
- عادل العلي