حين نسبر الحالة الإسلامية والعربية سنجد ان تركيا التي يعتقد البعض أنها، في نهضتها الأخيرة،تُضمر أيديولوجياً مستعادة فإنها في واقع الأمر لم تخرج عن سمتها المدني ولم تشكل جذباً أيديولوجياً يستهدف آخرين. وعلي العكس من ذلك فقد انتهجت مساراً وطنياً بحتاً وحققت في السنوات العشر الأخيرة تقدماً اقتصادياً وعلمياً وصناعياً وقطعت شوطاً مهماً في الممارسة الديمقراطية ونجحت في إحداث تغيير نوعي في البنية السياسية للجمهورية التركية الحديثة عبر حراك مدني بحت تحت ذات اللافتة الأتاتوركية القديمة.
وعلى الرغم من وجود فضاء قومي تركي بامتداد القوقاز وفضاء إسلامي آخر ذو خلفية عثمانية فإن كل ذلك لم يحرك الشهية الأيديولوجية للأتراك، حتي الآن علي الأقل.وبدلاً من جحافل الأيديولوجيا الجامحة في الحالة الإيرانية فإن ما نشاهده في الحالة التركية هو جحافل الإنتاج والصادرات الصناعية والجذب السياحي. وكان واضحاً خلال الانقلاب الفاشل الصيف الماضي ان المواطنين الذين كانوا يقاومونه ويقفون في وجهه لم يكونوا يدافعون عن الإيديولوجيا او رموزها وانما كانوا يدافعون عن مكاسب تنموية وحقوق مدنية كانوا شركاء في إنجازها.
إن كل ما قد يشي بشبهة الأيديولوجيا في الواقع التركي الحالي هو أبعد ما يكون عن الحقيقة،إذ ان السياسات التي أحدثتها السلطة لا تتعدى إجراءاتٍ لتجاوز الحظر السابق المتعلق بالحجاب والأذان في المساجد وفتح مدارس تحفيظ القرآن وما شابه ذلك ولا تتوفر إشارات واضحة لأدلجة الدولة أو الشعب.بل إن محاصرة السلطة لتيار رجل الدين قولن يمكن اعتباره مقاومة رسمية لإثارةٍ إيديولوجية غير مرغوبة،رغم ان الشجار بين التيار ونخبة السلطة يبدو في حقيقته تنافساً علي مستقبل السياسة التركية والمصالح المرتبطة بها وليس علي إعلاء خيارٍ أيديولوجيٍ محدد.
أما فيما يتعلق بالمنطقة العربية فإن أفول المرحلة القومية بشقيها،والتي كانت في حقيقة الأمر لا تتعدي ان تكون أيديولوجيةً رومانسيةً محضة،لم يؤد إلي خلق أيديولوجيا إسلامية شاملة وفاعلة.وقصاري ما حصل هو نشوء حالة وعيٍ محدود وقيام جماعات او أحزاب غير مرخّصة تدعو لاستعادة الهوية الإسلامية ،كل ذلك نتيجة الهزائم القومية المتتالية وفشل الدول الوطنية في تحقيق النهوض المأمول.وحتي بعد قيام الحركة الخمينية التي كانت ،بشقيها المذهبي العلني والقومي المضمر،تستهدف المنطقة العربية بشعاراتٍ مخاتلة،فإن ذلك لم يقابله مدٌّ أيديولوجي إسلامي عربي واقتصر الأمر علي مواجهة عسكرية طويلة بين ايران ودولة عربية وحيدة.وفي حين بقيت ايران موحّدة بإيديولوجيتها واستنهضت اتباعها في كل مكان،فإن العرب انقسموا حول هذه الحرب وشعاراتها دينياً وقومياً وسياسياً.وبقدر الدعم المادي والمعنوي الذي حصلت عليه الدولة المواجهة لإيران من بعض جوارها العربي،لأسباب سياسية بحتة،فإنها واجهت خذلاناً وعدوانية من دولٍ عربية أخري وأحياناً تواطؤاً واضحاً،أما الشعوب العربية فكانت في موقع المتفرج.
ولم تستطع تلك الدولة العربية خلق الإصطفاف الأيديولوجي القومي الذي راهنت عليه أو توهمته وبالغت في إطلاق شعاراته.وهذا ما يؤكد حالة الخمول الأيديولوجي قومياً وإسلامياً في المنطقة العربية.
وعندما حصل الربيع العربي وتوهّم الكثيرون أنها لحظة ثورية أيديولوجية،وتحديداً إسلامية،فقد تمخض عجاج الربيع عن أحزاب إسلامية هشة ركبت موجات الإنتفاضات وتسلمت مقاليد الأمور، بإرادة منقوصة، لفترة قصيرة من الوقت، دون برامج واضحة ولا دعمٍ جماهيريٍ كاف.ثم عادت الأمور الي ما كانت عليه وعادت الأنظمة السابقة بوجوهٍ جديدة ووطأةٍ أشد.أما الدول التي لا زالت تُنازع في مخاض ثوراتها فهي رهن بازارٍ دولي يبيع بالمفرّق والجملة والشعوب هي البضاعة المزجاة.وهذا ما يؤكد مرة أخرى ان الحالة العربية لا تزال خاملةً أيديولوجياً وأنها في دور المفعول به لا الفاعل.
ولعل ما يبدو من حالاتٍ أيديولوجية مدّعاة،يمارس بعضها ترفاً فكرياً إعلامياً والبعض الآخر يزاول أعمالاً سريةً عنفية، إن هي الا شظايا فالتة من الكتلة الخاملة،وهو الإستثناء الذي يؤكد القاعدة.علماً أنها لا تستهدف الآخر والنقيض بقدر ما تتوجه بعنفها الي الجماعة التي انبثقت منها،مما يجعل الوضع العربي ساحة للتشاكل والتناحر بين أنظمة فاشلة او مترهلة وجماعات سرية تتمظهر بأيديولوجيا عنفية لا تحظي بشعبية تذكر ولا تمثل جاذبية سياسية.وبقدر ما يبدو هذا الخمول الأيديولوجي العربي أمراً محموداً للمراقب باعتبار ان البديل هو تحقيق إنجازات حضارية ملموسة في حقول العلم والاقتصاد والصناعة والتجربة الديمقراطية والإجتماع المدني.إلا أن واقع الحال هو أن العرب يكادون يخرجون من التاريخ الحديث بلا تاريخ، فلا هُم الذين امتطوا خيول الأيديولوجيا وجربوا حظهم مرة أخري مع التاريخ والجغرافيا ولا هُم الذين حرثوا السهل وزرعوا حضارة معاصرة تتغذّي بها أجيالهم القادمة.وكأنما المتنبي يراهم بعين بصيرته حين قال:
فأصبح لا يُطال له فيرعى
ولا هو في العليق ولا اللجامِ
- عبدالرحمن الصالح