علي الخزيم
كان المجلس مهيباً بما ضَمَّ من حضور له قيمة اجتماعية وفكرية، ورجال مجتمع مسنين لهم أنشطتهم الاجتماعية الخيرية النقية بعيداً عن الانتماءات، وبين الحضور من لهم التقدير بين أفراد الأسرة لانقطاعهم عن أمور الدنيا والميل للروابط الروحانية التعبدية بينهم وبين الله سبحانه يومهم وليلتهم لا يرجون سوى حسن الختام، وقال الراوي للمشهد الذي مضى وبقيت عبرته: ضم مجلسنا (أُغيلمة) يستميتون لتَصَدُّر المجلس تموضعاً وتحدثاً؛ يشتبكون بكل نقاش ويجادلون كل مُحَاِور، ويماحكون كل متحدث ان كان شيخاً جليلاً او متمكناً ممن حازوا الدرجات العلمية العالية، وكأنهم هم من أشرف على رسائلهم وبحوثهم لمنحهم هذه الدرجات، ليس هذا فحسب؛ بل إنهم يُرجِعون كل مسألة حتى لو كانت تتعلق بأسعار البطيخ إلى تأويلات دينية وفتاوى قد لا تكون بمجملها منطبقة على مدار الحديث، وربما أنها أبعد ما تكون عن صلب الموضوع غير ان الفتية بدافع من حماس ديني وتعلق بمنهج تفكيري ربما (لا فكري) ساروا خلفه دون تمعُّن؛ أرادوا ان يركبوا موجة ركبها من سرقهم واستمالهم لهذا الطريق دون وعي منهم بمنزلقات ووحول قد تعترضهم إن هم تمادوا وخاضوا بما لا يدركون ظلماته وخفاياه الخطرة.
سأل سائل ممن ضم المجلس أحد خاصته عن سبب جرأة الغلمان بالتحدث أمام من يفوقونهم مقاماً، والذين يُعَدُّون لهم بمثابة أساتذة ومعلمين؟! ودافعه للتساؤل سماعه أحد المخدوعين الصغار وهو يرد على رأي متحدث بالمجلس يستند بحديثه على قول فقيه معاصر بقوله:(لنا فيه رأي)؛ يقصد الفقيه!
فكان جواب صاحبه بأنه حلم الشيوخ وترفُّع العلماء عن القاصرين، فعلق بقوله: هذا برأيي خطأ كبير سيكون له ما بعده إن هم تُرِكوا يخوضون بكل حديث في كل منتدى ومجلس، فمع الزمن يتمادون حتى يُخَيَّل لهم أنهم صاروا شيوخاً وعلماء، ولا يجدر بذوي الحكمة والرأي أن يجاملوهم وينصتوا لحديثهم الذي جُلّه غثاء لا يستند على دليل وبرهان علمي شرعي، وسيكون وقعه وتأثيره أكبر على أقرانهم الفتيان والصغار وربما يقود الإنصات لهم وترك الفرصة أمامهم للحديث الى إعجاب الصغار بهم والتعلق بآرائهم على اثر ما يلاحظونه من صمت الكبار والمتمكنين عنهم فيظنونه دليل موافقة وضوءا أخضر لمتابعتهم والأخذ بأقوالهم.
صدحت كلمات الرجل وبلغت بصاحبه ان أعمل ذهنه ونقلها لمن يتوسم فيهم خيراً للعمل على حماية هؤلاء الفتيان من التمادي والسير بدروب خطرة دون مخزون علمي ينير لهم طريقهم ويحميهم من كيد من يريد بهم شراً والنفير بهم لمواقع الفتنة وساحات الضلال والتكفير ليلاقوا مصير من سبقهم ممن خُدعوا وضُللوا بالطريقة ذاتها، تشاور الجمع وبعد أيام كان الرأي قد استقر على اختيار مجموعة من الثقات الناصحين المتمكنين المعتدلين لتولي مهمة احتواء الفتية وإنارة عقولهم وبصائرهم وأفئدتهم وإرشادهم للطريق القويم، وكشف نوايا وألاعيب من غَلَّف أفكارهم بغلاف الزيف، وكانت فرحة الجميع بعد فترة زمنية باستقامة الشباب وسمعوا منهم ما أراح ضمائرهم، هكذا تكون القدوة والتناصح بالخير.