د. عبدالحق عزوزي
تعتبر هزيمة تنظيم داعش في مدينة الموصل الحدث التاريخي الكبير في سجل محاربة التوسع الإرهابي الذي عرفه تاريخنا المعاصر، باستيلاء عناصر أتت من خارج التاريخ وعاثت في الأرض فسادا وشردت وقتلت المئات من الأبرياء؛ وهاته الهزيمة هي الكبرى منذ استيلاء المتشددين على أراض واسعة في العراق وسورية عام 2014. وقد أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، الذي تناقلت صورته كل القنوات التلفزية العالمية، تحقيق «النصر الكبير» في الموصل التي زارها واجتمع فيها مع القيادات العسكرية في الجانب الأيمن، وتجول بين المواطنين في شوارع الجانب الأيسر. وفي سورية، اخترقت قوات عربية وكردية مدعومة أميركيا مدينة الرقة معقل تنظيم داعش هناك، حيث تدور معارك ضروس داخلها. وهذه قائمة تبين كيف تقلصت ومازالت تتقلص مساحة ما يسمى بـ»دولة الخلافة» خلال العامين الماضيين مرفقة بالهزائم التي مني بها التنظيم في العراق وسورية.
وأنا أكتب هاته الكلمات، أتذكر الكلمة التي كان قد وجهها، للأمتين الإسلامية والعربية والمجتمع الدولي، خادم الحرمين الشريفين المرحوم الملك عبد الله بن عبد العزيز، إذ أشار إلى أن المتخاذلين عن أداء مسؤولياتهم التاريخية ضد الإرهاب من أجل مصالح وقتية أو مخططات مشبوهة سيكونون أول ضحاياه في الغد، وكأنهم بذلك لم يستفيدوا من تجربة الماضي القريب، والتي لم يسلم منها أحد. وكان قد قال بالحرف « اليوم نقول لكل الذين تخاذلوا أو يتخاذلون عن أداء مسؤولياتهم التاريخية ضد الإرهاب من أجل مصالح وقتية أو مخططات مشبوهة، بأنهم سيكونون أول ضحاياه في الغد، وكأنهم بذلك لم يستفيدوا من تجربة الماضي القريب، والتي لم يسلم منها أحد. اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد.. اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد.. {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (227) سورة الشعراء.
وكان قد دعا الملك عبد الله بن عبد العزيز، قادة وعلماء الأمة الإسلامية إلى أداء واجبهم والوقوف في وجه «من يحاولون اختطاف الإسلام وتقديمه للعالم بأنه دين التطرف والكراهية والإرهاب»، محذراً من فتنة «وجدت لها أرضا خصبة في عالمينا العربي والإسلامي، وسهل لها المغرضون الحاقدون على أمتنا كل أمر، حتى توهمت بأنه اشتد عودها، وقويت شوكتها، فأخذت تعيث في الأرض إرهابا وفسادا، وأوغلت في الباطل». ولأن الإرهابيين، «شوهوا صورة الإسلام بنقائه وصفائه وإنسانيته، وألصقوا به كل أنواع الصفات السيئة بأفعالهم، وطغيانهم، وإجرامهم».
وبالرجوع إلى هذا الخطاب الواقعي، نفهم أن الداهية العظمى والمصيبة الآزفة التي ليس لها من دون الله كاشفة، هي تواجد المشاحنات الطائفية والمذهبية، والبيئة النفسية المسكونة بالغبن والحرمان والظلم في العديد من البلدان كالعراق، والتي سمحت لكي يخرج من جوفها فيروسات إرهابية عابرة للحدود والقارات كداعش، حيث إن نماءها كان أسرع من أخطر فيروس معروف في مجال الطب، حيث ابتلعت في تاريخها مساحات شاسعة في ظرف أسابيع معلومات. ولأزمة الدولة الوطنية في العراق اليوم مثلا مظهران وعنوانان: أزمة النظام السياسي القائم على الاحتصاص («المحاصصة») الطائفي والمذهبي والإثني، وأزمة الغزو»الجهادي» التكفيري الخارجي الذي يمزق النسيج الاجتماعي العراقي.(....) ولا يظنن أحد أن الرد على ذينك الخلل والهندسة كما يكتب أحدهم يكون بتعديل الميزان وتغليب كفة فريق على فريق، أو بالنصفة في قسمة الحقوق الطائفية والمذهبية والإثنية، وإنما يكون بالخروج عن هذا النظام العصبوي برمته إلى نظام وطني جامع قائم على علاقات المواطنة والاندماج الاجتماعي والوطني، وليس ذلك بعزيز على العراقيين- ولا غريب عن تاريخهم السياسي المعاصر- إن اجتمعت إرادتهم على ذلك، واستقلوا بقرارهم السياسي والسيادي. قد تطول الطريق إلى هذا الهدف، لكنها وحدها السبيل إلى إعادة بناء الوطن والدولة وعن أقطار التفكك والتقسيم والحرب الأهلية التي تقترحها الطائفية والمذهبية على البلد وشعبه.
القوات العراقية اليوم في صدد القضاء على آخر معاقل داعش وهذا شيء نحمد الله عليه، ولكن إذا لم يصحح الخلل المجتمعي والهندسة السياسية الخاطئة، وإذا تم تخاذل كل الفاعلين عن أداء مسؤولياتهم التاريخية ضد الإرهاب كما قال المرحوم الملك عبدالله، من أجل مصالح وقتية أو مخططات مشبوهة في هذا البلد أو غيره، فستخلق منظمات إرهابية جديدة ومسارات دموية لامتناهية على أرض المسلمين وسيستمر الخراب والتدمير ناهيك عن المؤامرات الخارجية التي تسعى دائما لجعل المناطق العربية مناطق صراع دائمة.