أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: مَرَّ في الأسبوع الماضي كلامُ الإمام ابنِ تيمية -رحمه الله تعالى- عن التَّجْرِبِيَّاتِ والحدسِيَّاتِ، ومناقشةُ كل ذلك، ثُمَّ أخَذَ في تمْيِيْزِ التجرِبِيَّات بخصائها؛ فقال في كتابه (الردُّ على المنْطِقِيّْيِنْ)، ص 93-94: (ذلك أنَّ التجرِبة تحصل بنظره[أيْ نظَرِ العقْلِ] واعتباره، وتدبُّره كحصولِ الأثرِ المعيَّن دائراً مع المؤثر المعين، دائِراً مع المؤَثر دائماً؛ فيرى ذلك عادةً مُستَمِرَّةً لا سيما [؛ الأفصح: ولا سيما] إنْ شَعُر بالسبب المناسب؛ فيضم المناسب إلى الدوران مع (السبر والتقسيم)؛ فإنه لا بُدَّ في جميع ذلك: من السبر والتقسيم الذي ينفى المتزاحِم.. وإلا فمتى حصل الأثر مقروناً بأمرين: لم تكنْ إضافتُه إلى أحدهما دون الآخر بأولى من العكس، ومن إضافته إلى كليهما.. وما يحتجُّ به الفقهاء في إثبات كونِ الوصفِ علةً للحكم من دوران ومناسبة، وغير ذلك: إنَّما يفيد المقصودَ مع نفي المزاحم؛ وذلك يُعلم بالسبر والتقسيم؛ فإنْ كان نَفْيُ المزاحم ظنياً كان اعتقادُ العِلِّية ظنياً، وإنْ كان [؛ أي المزاحِمُ قطعياً]: كان الاعتقادُ قطعياً.. إذا كان قاطعاً بأنَّ الحكم لا بُدَّ له مِنْ عِلَّةٍ، وقاطعاً بأنَّه لا يصلح للعلة إلا الوصفُ الفلانيُّ.. قال أبو عبدالرحمن: [منذ قوله: (إذا كان قاطعاً) قَيْدٌ لقوله: (كان الاعتقادُ قطعياً)؛ وههنا إحالةٌ من المحقِّقِ برقم (81) من السطر السابع عشر من الصفحة 93 إلى جدول الخطإ والصواب ص 557.. والخطأُ المبيَّنُ ههنا هو (المعيَّنُ والأمْرُ)، والصواب: (المعيَّنُ والعلم المعيَّنُ والأمر).. والواقِعُ أنه لا وجودَ لهذا التصحيح لا في المتن ص 93، ولا في الإحالة ص 557؛ وبالإجمالِ فكتابُ الإمام ابن تيمية عن المنطق سَيِّيُ الضبط؛ لأنَّه - رحمه الله تعالى - لم يراجع كتابه الذي كتبه على عجل؛ ليصحِّحه، ولا سيما مع كثرة البياض في الكتاب؛ وهكذا تحقيقُ الندويِّ سيئٌ جداً؛ فهو بحاجةٍ إلى إعادة تحقيق؛ لمعرفةِ مرادِ المتكلِّم؛ وليس ذلك لفهم منطق أرسطو؛ فالمرجعُ في ذلك إلى أمثال ابن رشد الحفيد الذي فَهِم مراد أرسطو فهماً مطابقاً مُرادَه؛ ولكنه فارق دينَه عندما جعل فلسفة أرسطو هي العمدة، وجعل كلامَ الله سبحانه وتعالى وسنَّةَ رسوله خطاباً للعوام؛ وهذا أمْرٌ حققه الإمام ابن تيمية وغيرُه في الكلام عن مذهب أهل التجهيل والتخْيِيْل،، وأنَّ الله لم يخاطب المكلين بالحقائق؛ بل على قدْرِ فهمِ عقولهم].. ثم قال ابنُ تيميةَ: (وهكذا القضايا العادية من قضايا الطب وغيرها: هي من هذا الباب؛ وكذلك قضايا النحو، والتصريف، واللغة: من هذا الباب؛ ولكن في اللغة يدور المعنى مع اللفظ لا ..[قال أبو عبدالرحمن: بيَّن المحقِّقُ أنَّ هذه النُّقَطَ تعني بياضاً في الأصل.. وما أكْثَر التَّبييْضَ في كتبه رحمه الله تعالَى] هذا الباب، وفي النحو والتصريف يدور الحكم مع النوع؛ وهذا كالعلم بأنَّ أكل الخبز ونحو ه يُشبِع، وشُربَ الماء ونحوه يُروِي، ولِبْسَ الحشايا يوجب الدِّفْأَ، والتجُّردَ من الثياب يوجب البرد، ونحوَ ذلك).
قال أبو عبدالرحمن: حاولتُ تذْلِيلَ فهْمِ ما مَضَى مِن فقراتٍ بإيرادِي علاماتِ الترقيمِ بإتقان، وبكلِّ ما وضعته بين معقوفين هكذا:[ ].. والذي أَهْدِي إليه إخواني في هذه الْعُجالة: أنَّ الْمَنْطِقَ قبل (سقراط) و(وأرسطو)، وبعدهما: هو تنظيمُ دلالة الْعَقْلِ الذي جعله الله شرطاً لِلتَّكْلِيْفِ، ورَفَعِ الحرجِ وتغيِيْبِ الطِّبِّ الشرعي عند إغلاقِ الغضبِ الذي يُغَيِّبُ العقلَ.. والعقلُ بتلك القيودِ هو برهانُنا إلى الإيمان بالله وكُتُبِهِ ورُسُلِه وما جاء من عنده جَلَّ جلالُه بآياته في الأنفس والآفاق.. ثم يتضافَرُ الشرعُ والْعَقْلُ على تقْيِيْدِ جنوحِ العقلِ المخلوقِ وغرورِه بأحكامِ الشرعِ إذا صحَّ دلالةً وثبوتاً؛ لأنَّ العقلَ خَلْقُ اللَّهِ، والشرعُ تنزيلُ اللهِ لإصلاحِ خَلْقِ اللَّهِ؛ وخالِقُ الخلقِ أعْلَمُ بما يُصْلِحُهم.. وأما قولُ بعضِ الدراويش: (مَنْ تَمَنْطَق تزنْدَقَ): فقد افترى إثماً لا يصدرُ عن ذي خلاقٍ، بل مَنْ أحْكَمَ التمنطقَ على مُرادِ الله، وضرورةَ العقل: فقد اهتدَى وهَدَى بحمد الله؛ ولهذا اخْتار شيخي عبدالرزاق عفيفي [؛وما أغْزَرَ عِلْمَه، وأرْجَحَ عَقْلَه رحمه الله تعالى] عدداً قليلاً من طُلَّابِه يُدرِّسُهم ضروراتِ المنطق بقيود أحكام الشرعِ؛ وللأسف لمْ أكنْ ضِمْنَهم؛ لأنني يومَها عند المشايخ (لستُ بذاك)، وشَعْرَتي سوداء؛ لإفراطي في حُبِّ الطربِ والجماليات؛ فالحمد لله الذي هداني آخِرَ العُمْرِ؛ والعبرةُ بالخواتيم، وحسبي الله ثم الشيخُ الأجَلُّ الإمام ابنُ حزمٍ -رحمه الله تعالى- الذي وسَّعَتْ كتُبُه آفاق وعْيِيْ، وآفاقَ مداركي، ومنه تَعَلَّمْتُ حُرِّيَّةَ العقلِ، وضرورَةَ الالتزام إذا انتهتْ حريَّةُ الفكر إلى ضرورة عقلٍ؛ ولهذا كنتُ أتَلَقَّى عِلْمَ الإمامِ -رحمه الله تعالى- بمُحاكَمَةٍ مُضْنِيَةٍ لا بتسليم.. وإلى لقاءٍ في السبتِ القادِم إنْ شاء الله تعالى, والله المُستعانُ.