إبراهيم عبدالله العمار
تَرِقُّ أفئدة المسلمين اليوم كلما ذُكِرت الأندلس، فنتذكر تلك الدولة المسلمة العظيمة التي نهضت بالعلم والحضارة نهضة مدهشة، في وقت كانت فيه أوروبا همجية متخلفة، وبعد فترة أدركوا عظمة العلوم الإسلامية فأتوا جاثين يطلبون العلم، إلى أن زالت دولة المسلمين. لكن كيف كانت إسبانيا قبل ذلك؟
هذا ما يتفصّل فيه الكاتب كريس لاوني في كتابه «عالم مندثر» الذي يحكي كيف عاش اليهود والنصارى تحت حكم المسلمين في وئام ورغد لم يكن معروفاً آنذاك، ويقص حال إسبانيا قبل الإسلام، فيذكر أن الشعب الذي حكم إسبانيا شعب القوط الغربي Visigoths كان دخيلاً ومَلَك إسبانيا قهراً، فالقوط قبائل بدوية محاربة ملأت أوروبا وأرهقت الدول الكبيرة بحرب العصابات والغارات الخاطفة ثم انسحاب سريع للجبال والغابات، حتى الإمبراطورية الرومانية الجبارة كان من أسباب سقوطها هجمات تلك القبائل الشعثاء الغبراء، وهو نفسه ما حصل لإسبانيا لما انتهشها القوط من أطرافها سنيناً حتى سادتْهم.
كانت أوروبا قليلة العدد، والأغلبية أمية، والكتب نادرة لصعوبة صناعتها، فلم تكن كاليوم بل يكتب النص على جلد الحيوان بعد تنقيع الجلد ومطه ومعالجته وتجفيفه، عملية طويلة شاقة، ولم يستطع الكاتب إلا إنتاج كتابين في السنة في أحسن الأحوال، ومن الكُتّاب آنذاك إيزادور، الذي وضع موسوعة علمية وصفها البعض أنها أفضل ما صنف آنذاك، ونفس الكاتب العالِم وضع كتاباً آخر اسمه «تاريخ القوط»، وهنا الغريب: إيزادور إسباني صميم وليس من القوط الغزاة، فكيف سيصفهم؟ ببغض واحتقار؟ لا، بل أخذ يمجّدهم! ربما لأن القوط هجروا وثنيّتهم وتنصّروا ورأى أن مصلحة الكنيسة في مدحهم، رغم أنهم شعب متوحش لم يعرف إلا النهب والغزو. وفي نفس الوقت الذي أخذ يطبّل فيه لهم فاته أهم حدث في العالم آنذاك: الإسلام. لما توفي إيزادور في 625م كانت معركة بدر الفاصلة تُغيّر وجه التاريخ لتصنع الأمّة التي ستنحّي القوط الهمج على يد طارق بن زياد وجيشه الصغير الصابر الصارم وتملأ إسبانيا نوراً.
بينما عَلّم إيزادور قومه العد على الأصابع أتى المسلمون بعدها ليقدموا علم الجبر وحساب المثلثات. وصَفَ الوحوش الأسطورية لكن لم يكتب عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وتغييره للتاريخ. لو أدرك المسلمين الذين أتوا 90 سنة بعد وفاته لأخبروه أن كائن «سكيوبيد» ذو الساق الواحدة وكائن «ساينوسيفاي» ذو رأس الكلب وغيرها ليسوا إلا خرافات، والدليل أن المسلمين لم يفتحوا إسبانيا فقط بل حتى البلاد البعيدة التي زعم إيزادور أن تلك الوحوش استوطنتها! لكن إيزادور في معرض ثنائه على القوط الرعاع مخاطباً قومه وكاذباً عليهم ليحبّب لهم القوط الحاكمين قال: «إني قد قرأت في كتب الأولين أن قوماً سينزعون المُلك منا، قوم سيغَلبون أغلب جيوش العالم، يحكموننا بحبّ، ويحوّلون بلادنا جنة مترفة».
حدث هذا فعلاً لكن ليس على يد القوط وحكمهم الفاشل الذي ترك إسبانيا ضعيفة، واقرأ الآن التساؤل الذي ختم به إيزادور كتابه: «القوط أعظم المحاربين، فأي جيش يقدر أن يغلبهم؟»
عمّا قليل ستعرف يا إيزادور.