علي الصراف
تقول قطر إنها عرضت على الحكومة الألمانية السماح لأجهزة مخابراتها بالاطلاع على «جميع الأوراق والمستندات» التي تملكها فيما يتعلق بالتنظيمات الإرهابية.
هذا وجه آخر من وجوه الاستهبال. ولا أدري كم يمكنه أن ينطلي على دولة عظيمة المكانة بحجم ألمانيا؟ أو ما إذا كان الغرض منه هو إيجاد سبيل لتحويله إلى استهبال أعم وأشمل؟
هناك ضحك على الذقون، وهذا سيء عادة، إلا أن هناك ما هو أسوأ منه، وهو أن يكون هناك من يرغب لذقنه أن يُضحك عليها.
المسألة، كما يمكن حتى للجاهل أن يعرف، لا تتعلق بما لديك (أو بما تختاره) من أوراق ومستندات. دعم الإرهاب لا يوجد في هذه الأوراق! إنه موجود في سجلات المال. إنه موجود في التحويلات المالية التي تقوم بها جهات حكومية وأفراد ومسؤولون، بهذا الغطاء أو ذاك، لتمويل الجماعات الإرهابية.
نحن نعرف أن بعض أجهزة الاستخبارات الأوروبية يستهبل حتى على نفسه. فهناك الكثير من الأدلة والتأكيدات الرسمية التي تثبت، على سبيل المثال، أن هناك متطرفين معروفين لدى هذه الأجهزة، ولكنهم يمتلكون رخصًا رسمية لحمل السلاح! وعلى الرغم من تواتر الصلة بين الجريمة والإرهاب، فهناك الكثير من الأدلة التي تثبت أن هناك أشخاصًا مسجلين كمجرمين لدى أجهزة الشرطة والأمن، إلا أن أجهزة الاستخبارات المعنية بالإرهاب لا تعرف عنهم شيئًا.
مع ذلك، فحتى أغبى جهاز استخبارات في العالم يعرف أن القصة في تمويل الإرهاب، إنما تبدأ بالمال. وعندما يكون الإرهاب ممولاً من جانب حكومي، فإن القصة إنما تبدأ من سجلات التحويلات الرسمية، بما فيها ذات الطابع الشخصي للمسؤولين الحكوميين، التي تتحول في النهاية إلى «كاش».
المبدأ العام، لا يسمح بتقديم المال للإرهاب مقابل الإفراج عن الرهائن. و»لا».. إنما تعني: لا. (نقطة، رأس السطر).
ولكن الكل يعرف أن قطر كانت تقوم بإبلاغ الكثير من الحكومات الغربية بعملياتها للإفراج عن الرهائن، بل وتتقدم بحماس للعب دور الوسيط الطيب، المسكين، الذي يرغب بالمساعدة. وباستثناء الولايات المتحدة التي ظلت ترفض المساومة على المبدأ من أساسها، فإن تلك الحكومات كانت تسمح لقطر بتقديم فديات ضخمة من أجل إطلاق سراح رهائنها.
حتى إن هناك من الأدلة ما يثبت أن قطر كانت تشجع بعض التنظيمات الإرهابية على اختطاف رهائن، لكي تتخذ من الأمر ذريعة لتقدم لها المال.
ولقد كان الأمر، كما كان على الدوام، نوعًا من الاستهبال المزدوج. فبينما وفرت تلك الحكومات لنفسها غطاء يثبت أنها لا تدفع أموالاً مقابل إطلاق سراح رهائنها، فقد وفرت قطر لنفسها غطاء لتقديم عشرات بل مئات الملايين من الدولارات لتلك المنظمات الإرهابية، بدواعي تقديم المساعدة لتلك الحكومات، بينما المقصود هو مساعدة تنظيمات الإرهاب.
وعندما عز على الإرهابيين أن يعثروا على ضحايا غربيين، فقد أوفدت قطر شحنة مخطوفين من مواطنيها، لكي تفتديهم بمليار دولار! (هل يحتاج الأمر إلى دليل؟ أم إلى ضحك على الذقون؟ أم إلى النظر في حجم المبلغ لكي يلطم المرء على رأسه من فرط الذهول؟).
الوجه الآخر للحقيقة هو أن تمويل قطر لجماعات الإخوان المسلمين، أمر معروف ومكشوف للعلن. وهو يتضمن تفاصيل لها أول وليس لها آخر. ابتداء من تزويدها بالمال لخوض الحملات الانتخابية في مصر وتونس وليبيا، وصولاً إلى تزويدها بالسلاح في سوريا وليبيا وتونس ومصر.
ما لا مفر منه، هو أن أحدًا لن تغرب عن باله حقيقة أن الجماعات المتطرفة، مثل المنخل، تنفذ إلى بعضها بعضًا. وهي متداخلة إلى درجة أن المرء لا يحتاج أن يمارس حيالها أي مستوى من مستويات الغباء العنيف. ذلك أن الرؤية واحدة، والمنهج واحد. والهدف واحد. وقوائم الأعضاء متشابكة أصلاً.
دعم قطر لتنظيمات «الإخوان المسلمين» ليس رسميًا فحسب، ولكنه مثبت على كل وجه ومن وجوه الأدلة الأخرى. ولكن الأدلة الأهم هي «مسارب» المال و»مسارات» السلاح.
هل هناك حاجة لأحد أن يعرف أي طرق كانت تتخذ تلك المسارات؟
هل هناك حاجة إلى القول إن تمويلات قطر لا تتم عن طريقها المباشر دائمًا؟ وأن طائراتها ليست هي الوحيدة التي كانت تنقل السلاح؟ وأن الممرات الأرضية كانت توصل الكثير منه إلى كل التنظيمات الإرهابية، بما فيها تنظيم داعش نفسه؟
وهل هناك حاجة لمعرفة أن هناك معتقلين في سجون بعض دول «الممرات»، فقط لأنهم كشفوا تلك الحقيقة.
فهل ستذهب المخابرات الألمانية إليهم، لكي ترى من أين كان يأتي التمويل، والى أين كان يذهب السلاح؟
بل هل هناك حاجة لمعرفة أن هناك من ظل يزعم أنه يحارب الإرهاب، من دون أن يطلق ضده طلقة واحدة لسنوات، بل آثر أن يطلق النار على من يحاربه؟ أم أن هناك من يرغب بأن تنطلي على ذقنه مفارقة أن الذي يمول الإرهاب على المستوى الخفي، شريك في محاربته على المستوى الرسمي، في واحدة من أسخف وسائل الاستهبال، وأكثرها افتضاحًا.
ويا له من استهبال عميق ومؤثر. إنه فيلم حقيقي، لكوميديا تثير الرغبة بالبكاء!
ألمانيا دولة أعظم من أن تخدع نفسها، حتى ولو كان الأمر مقابل أكبر صفقات الدنيا. إنها تملك من القوة والمال ما يغنيها عن كل مال. وإذا شاءت أن تعرف الحقيقة، فإنها سوف تبحث عنها في مسارب المال ومسارات السلاح، لا في أوراق ولا مستندات لا قيمة فيها.