د. حسن بن فهد الهويمل
من الناس المتنخوبين من يستقبل الغرب ثقافة، وأسلوب حياة، حتى لا يرى ملجأ، ولا مَنْجا إلا إليه.
ورائد هؤلاء جميعًا النَّخبوي بحق، وحقيق [طه حسين] في كتابه [مستقبل الثقافة في مصر]، الذي أثار من الردود، والتحفظات مثلما أثاره كتابه عن الأدب الجاهلي، لأنه في كليهما غَرْبِي الهوى.
هذه [القابلية] التي التقطها المفكر الجزائري [مالك بن نبي]، وبنى عليها حقائق دامغة لكل المتذيلين للغرب. حملت البُلْه، والمندهشين على استبعاد نظريات [التآمر]، و[الغزو]، و[اللعب]، واشتقاق [استعمر] من جذر [عَمَرَ]، مصطلحًا لاحتلال الأراضي، واستعباد أهلها، واستغلال خيراتها.
والله استعمرنا في الأرض، أي جعلنا عُمَّارًا لها:- {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}.
وهذا من خداع المصطلحات، وتزويرها. وما أكثر المصطلحات الخَدَّاعات. وحتى الذين استهوتهم المصطلحات السياسية الغربية، كـ[الليبرالية]، و[العلمانية]، و[الحداثة الفكرية] اجتهدوا ما وسعهم الاجتهاد، لتحسين [الصبغة الغربية]، والنظر إليها على أنها [بقية الحياة الكريمة].
هؤلاء البُلْه، المغفلون، المغلوبون على أمرهم، لا يفرقون بين [المدنية]، و[الحضارة]. كما لا يفرقون بين ضَالَّة المؤمن، وضَلالِ الحضارات المادية.
كل حق عند الشرق، والغرب هو ضالتنا، ونحن أحق به. لأنه من مقاصد الإسلام. فمن مقاصده [عمارة الكون]. ولا يتم هذا المقصد من دون مخترعات الغرب، ومكتشفاته، وشيء من مدنيته.
وكيف لا نستبق خيرات الغرب، والرسول صلى الله عليه سلم استفاد من الغير فكْرة [الخندق]، و[المنبر]، و[الخاتم]، وقال لنا:- [أنتم أعلم بأمور دنياكم].
وهذا يذكرنا باستدراك:- [الحباب بن المنذر] في [غزوة بدر]:- [أمَنْزِلٌ أنْزَلَكَ اللهُ إِيَّاه. أَمْ هِيَ الْحَرْبُ، وَالْمَكِيْدَةُ؟] الحديث. ومن بعده الخليفة الراشد [عمر بن الخطاب] رضي الله عنه، الذي انفتح على المستجدات، ولم يعارضه أحد من الصحابة.
إن بإمكاننا امتصاص نسغ الحضارات كافة، والتفاعل مع كافة دول العالم، شريطة ألاَّ نذوب، وألا تذهب ريحنا.
ما يقترفه القابلون للاستعمار، والمؤامرة، واللعب تعمد الذوبان في الآخر، والتذيل له، وتمكين لعبه، ومؤامراته من النفاذ. وذلك بتهيئة الأجواء، والقبول به سيدًا مطاعًا، واستقباله، أي جعل حضارته، ومدنيته، وسائر دساتيره، وأنظمته قِبْلة لنا.
الأمة الإسلامية أمة حضارة، ومدنية، ومنهج حياة. فالإسلام شرعة، ومنهاجًا. ولقد كنا قبل أن يكون الغرب. وحين كان نظر إلينا بمثل نظر المغلوب إليه.
لقد قَلَّدَنَا بمثل تقليدنا له. ولكنه أدرك أن الحياة السوية لا تكون إلا بالتفوق، أو بالندية على الأقل، ومن ثم بدأ يتحرك، ويتحرف، ويبدئ، ويعيد.
ومهد لذلك بالمخادعة، وصُنْعِ وعْيِنا المزيف على عَيْنِه، لنكون قابلين لكل أطماعه، وطموحاته، وخططه، وأعد لذلك المستشرقين، والمبشرين، والرَّحَّالة، والمناديب، وأنشأ المؤسسات، والمنظمات، وجيَّشَ الجيوش، وجنَّدَ العملاء.
وأمتنا في كل عام تُرْذَل. إذ كلما خَبَت فتنةٌ، أوقدوا فتنة أشد، وأعتى. وألبسوها ألبِسة خادعة، ومهدوا لها بالقول، والفعل.
واللعب القذرة يمهد لها بخلق أجواء ملائمة لنفاذها، وطرح مصطلحات مُضَلِّلَة، كـ[الإرهاب]، و[التخلف].
لقد اجتهد المستبد في أحياء [الطائفيات]، و[العرقيات]، بل سعوا لجعل السلطة في يد الأقليات، ليظل قيامها مرتهنًا للدعم الخارجي. وفي ذلك إنهاك لكل الطرائد، وإغناء لِصُنَّاع السلاح، وخلق عداوات تحول دون الوفاق.
تلك هي [القابلية] التي أرْدَتْ الأمة، ومكنت الأعداء من الهيمنة، واستغلال الخيرات.
لقد جُنِّدَ لهزيمة الأمة العربية ما لا يخطر على البال. فالتاريخ الحديث مليء بالغزوات: العسكرية، والثقافية، مكتظ بالمؤمرات، والغزو من الداخل.
كان [أهل السنة والجماعة] هم أهل الحل، والعقد، ومع ضعفهم، وتفككهم، وتعدد مذاهبهم، وولاءاتهم، وتمزق كياناتهم الإقليمية، وسقوط [الخلافة]، واستفحال [القطرية]، وقيام الانقلابات العسكرية، إلا أن فيهم بقية تخيف المستبد المتسلط.
وأخطر مؤامرة، وأقذر لعبة تتمثل بتأييد [انقلاب الملالي]، وزج الأمة العربية في أتون حروب طائفية، يكون من نتائجها حفظ التوازن بين [السنة]، و[الشيعة] إذ كلما رَجَحَتْ كِفَّةٌ على أخرى، أعيد التوازن، لتظل الفتن قائمة، والرابح هم صناع السلاح، والمستبدون. فيما تظل مُهمَّةُ الغرب قائمة على إدارة الأزمات.
الأمة العربية منهكة، وبعض قادتها يستجيبون لتعميق المآسي، وتشتيت الشمل، وإرهاق الشعوب.
وضلوع البعض في المؤامرات دليل على أن أمتنا مدخولة، وأن البعض من قادتها قابلون للاستعمار، والغزو، والتآمر.
- وهل أحد يشك في نفاذ اللعب المكشوفة، وتحقيق غاياتها؟
وبقدر ما تواجهه أمتنا من غزو متعدد الأشكال، فإن فينا من يمثل [الطابور الخامس]، ويتولى كبر الحرب: الفكرية، والدينية، والاجتماعية.
ويستوي عندي الرافضون للغرب جملة، وتفصيلا باسم الدين، والمتشددون، الخالعون للبيعة، الداعون لحمل السلاح، والمُنْسَلخون من الدين، الداعون [للعلمنة الشاملة]، والوَرِعون الذين يُحَرِّمون {زِينَة اللَّه الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَات مِنْ الرِّزْق}.
فَما أَحْوجنا إلى الوسطية، والاستنارةِ، ووعي الذات، والآخر، والتعايش، وتنمية الذات، والإمكانيات.