د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
لكافة الحروب دائماً آثار جانبية مدمرة، ومصطلح الآثار الجانبية أطلقه الأمريكيون بعد حرب الخليج collateral damage لوصف الدمار الجانبي الهائل الذي حل بالعراق، ولتبرير سقوط عدد كبير من الضحايا بين المدنيين العزل جرّاء الحرب. وبخلاف الآثار الجانبية للحرب العسكرية، قد تكون الآثار الجانبية هي الأهم بالنسبة للحرب على الإرهاب. وللحرب على الإرهاب سمات خاصة منها: إنها حرب ليست على دول وفي الوقت ذاته تدور أحداثها داخل دول بعينها، وهي حرب في عمقها استخباراتية عابرة للحدود، والمتهمون بها ينتمون لدين واحد هو الدين الإسلامي والمذهب السني على وجه الخصوص رغم أنها ليست حرباً على الإسلام كما يعلن. والمذهب السني هو المذهب الإسلامي الأول المقاوم تاريخيًا للتدخلات الأجنبية وخاصة الاستعمارية منها، في الجزائر، وليبيا، وشبه القارة الهندية، على سبيل المثال.
وفور السقوط المدوي والمفاجئ للاتحاد السوفيتي أطلقت المرأة الحديدية، رئيسة وزراء بريطانيا في التسعينات مارجريت تاتشر، تصريحاً مدوياً بأن الإسلام هو البلشفية الجديدة وأنه هو العدو العالمي الجديد للغرب. وتبعها فوراً جورج بوش الأب بتصريح قال فيه ألا مجال للتراخي بعد سقوط جدار برلين فما زالت القيم الديمقراطية الغربية تحت تهديد عالمي كبير وقصر عن تسمية الإسلام صراحة على أنه العدو القادم.
العدو هذا المرة، بتصريحات الغرب، ليس الإسلام كدين، ولكنه إسلامي في طبيعته، وهو ليس دولة أو دولاً بعينها، غير أنه يدور في منطقة بعينها، ويتطلب تعاون أجهزة استخبارات غير غربية هي في معظمها أجهزة استخبارات لدول إسلامية. وقد تزامن سقوط الاتحاد السوفيتي مع الانتصار العالمي لما سمي بالعولمة الاقتصادية، بل إن كثيراً من الخبراء يرى في انتصارات العولمة السريعة أداة لعزل الاتحاد السوفيتي وربما أسهمت في سقوطه أيضا. وطرحت العولمة في مؤتمراتها المتتابعة أداتين أساسيتين للتدخل في شؤون الدول الصغيرة التي تشكل ما يشبه الأسماك الصغيرة في بحيرة العولمة: الأولى، هي التغير المناخي، والثانية، هي حقوق الإنسان وخاصة حقوق المرأة. واعتبرت القضيتان عابرتين للحدود وتخول الدول الكبرى للتدخل في شؤون الدول الصغرى بكافة الضغوط حتى ولو كان في ذلك انتهاك لسيادتها. وقد بدت هاتان القضيتان وكأنما فُصلتا للتدخل في الدول التي تختلف في طبيعة قيمها وتركيبتها الاجتماعية عن العالم الغربي وعلى رأسها الدول الإسلامية السنية، والأقليات الإسلامية السنية التي تعيش في الدول الغربية ذاتها وتحميها الأنظمة القضائية وأنظمة حقوق الإنسان في هذه الدول. وبعد فشل التدخل تحت هذه الذرائع، كانت ذريعة محاربة الإرهاب مسوغًا أكثر قبولاً للتدخل المباشر في هذه الدول.
بدأ الغرب حربه بالانقلاب على حلفائه السابقين من المجاهدين في أفغانستان، وتبع ذلك أحداث 11-9 بكل ما يكتنفها من غموض، وأشرعت الباب لحرب عالمية ضد كل من يمكن أن يعارض الهيمنة الغربية الأخلاقية، حيث اعتبرت المعايير الغربية هي المعايير الكونية. وتم إشعال الحروب الإقليمية، وبيع كافة الأطراف في النزاعات في آن واحد أسلحة يتقاتلون بها. وفيما يتعلق بالشرق الأوسط، تمت تهيئة نظام الملالي الإيراني ودعمه لإنهاك المكون الإسلامي السني. وتبع ذلك أحداث إرهابية طالت الدول الغربية ذاتها بشكل متسلسل ومتواصل أصابت آثارها الجانبية شعوب هذه الدوله بوفوبيا متعمقة من كل ما هو إسلامي، ودُفعت الأقليات المسلمة في هذه الدول للعزلة تحت ضغط وخوف حقيقي، فهي متهم محتمل بالإرهاب حتى تثبت براءتها. وتم تحويل الدول الغربية، التي كانت تفتخر بالحريات الفردية، إلى دول أمنية تعيش تحت أنظمة عرفية غير معلنة.
ما زالت كرة الحرب على الإرهاب تتدحرج، تقطع أوصال الدول الإسلامية، وتهجر الملايين من سكانها، وتدفن ملايين أخرى تحت الأنقاض. هدّمت معظم حواضر الدول السنية التاريخية، وأزيلت معالمها في العراق وسوريا بالهدم والتدمير الممنهج، وأجبرت كافة الدول الإسلامية الأخرى على فتح ملفاتها الأمنية للرقيب الدولي الذي ينسق الحرب على الإرهاب. قضت الحروب المتواصلة على أجيال من الشباب في دول إسلامية معظمها سنية حيث حرمت هذه الأجيال من الصحة والتعليم. وتم لجم الطموحات السياسية للأقليات المسلمة في الدول الغربية بحيث لم يعد بإمكانها تنظيم نفسها بأي شكل فاعل سياسيًا خوفاً من اتهامها بدعم الإرهاب.