محمد سليمان العنقري
يتركز مفهوم الاحتكار على السلع والخدمات وفقاً لتعريفه السائد «حبس السِّلعة مع حاجة الناس إليها ليرتفع بذلك سعرها» كأحد التعريفات التي تختصر معنى الاحتكار، لكن في الحقيقة فإن له أبواباًَ عديدة يمارس من خلالها، ولعل من أبرزها احتكار المهن الذي قد لا يظهر للعموم بشكل واضح، بل يمكن لمس آثاره من خلال ارتفاع تكلفة الحصول على خدمات أصحاب هذه المهن بسبب ندرتها وضعف نمو عدد الممارسين لها قياساً بنمو الطلب.
في المملكة يعد الاحتكار المهني للتخصصات الصحية أحد الشواهد المهمة على هذا النوع من الاحتكار التي قد لا يظهر إلا مع التدقيق بالأرقام والإحصاءات، وسيقول البعض إننا نستقدم ممارسين صحيين من أطباء واختصاصيين من الخارج ولذلك تنتفي صفة الاحتكار، لكن عند النظر بإجمالي عدد الأطباء سعوديين ووافدين الذي يبلغ قرابة 82 ألف فإن النسبة قياساً لعدد السكان تصل إلى نحو 2.5 طبيب لكل ألف نسمة، وهو رقم يأتي بالحد الأدنى المطلوب لتقديم رعاية طبية جيدة، بينما تتجاوز الدول المتقدمة بالرعاية الصحية 3.5 طبيب لكل ألف نسمة، لكن بوجود نسبة أطباء وافدين تمثل نحو 78 % من إجمالي الأطباء فإن المعدل سيختلف كثيراً ويعبر عن أزمة كبيرة جداً بتوطين المهن الصحية، وهو ما عبرت عنه وزارة العمل بمسمى الانكشاف المهني، أحد الإشكاليات الجسيمة بهيكل سوق العمل، فالأطباء السعوديون عددهم نحو 19500 طبيب، وباستبعاد الأطباء الوافدين فإن لكل ألف نسمة 0.6 طبيب سعودي، أي نصف طبيب، فلو قرر الأطباء الوافدين الرحيل كافتراض نظري فإن أزمة كبيرة ستحدث بالخدمات الصحية، مما يدلل على ضعف كبير بالتخطيط للموارد البشرية وتوزيعها وفق احتياجات المجتمع والاقتصاد، إذ لا يعقل أن تكون الفجوة بتوطين هذا القطاع كبيرة لهذا الحد لولا ضعف التخطيط وغياب التنسيق بين وزارت الصحة والتعليم «الجامعات» والاقتصاد والتخطيط، وكذلك وزارة العمل.
لكن ما السبب فعلياً بهذا الضعف بعدد الأطباء، والحديث بالمقال عن تخصصات الطب البشري لا يشمل الأسنان والصيدلة، إن الإجابة على هذا السؤال يكمن بانخفاض عدد المقبولين بكليات الطب البشري، فحالياً يوجد 23 كلية طب حكومية لكن عدد من يدرسون بها 16500 طالب وطالبة، وبافتراض تخريج من 2000 إلى 3000 طبيب وطبيبة سنحتاج إلى نحو 25 سنة لتعويض الأطباء الوافدين، بافتراض عدم زيادة الطلب على الخدمة، وهو أمر مستحيل، فالنمو السكاني للمملكة يقارب 700 ألف سنوياً منهم 400 ألف سعودي، أي أننا بحاجة إلى 1500 طبيب على الأقل سنوياً إذا أخذنا بالمعدل الحالي 2.5 طبيب لكل ألف نسمة، بينما سنحتاج إلى قرابة 3000 طبيب إذا أردنا الوصول لمعدلات تغطية صحية عالمية دون احتساب الإحلال لتغطية الانكشاف المهني الحالي، وإذا كنا نريد وضع خطة لعشرة أعوام لتغطية احتياج المملكة من الأطباء لتعويض الوافدين وتغطية نمو الطلب السنوي فالحاجة لذلك تستدعي تخريج نحو عشرة آلاف طبيب سنوياً على الأقل، مما يوضح تماماً أن ضعف القبول بهذا العدد الضخم من الكليات يعبر عن صبغة احتكارية للمهنة، أي أنه توضع أنظمة تعرقل زيادة القبول حتى وإن لم تكن مقصودة فعلياً أو لا يمكن لمس التعمد بذلك، إلا أن الواقع يقول هناك عرقلة واضحة لمنع زيادة عدد الأطباء السعوديين من خلال التشدد بمعايير القبول، فالجامعات الكبرى لم تعد تكتفي برفع درجة القبول بالسنة التحضيرية التي وصلت إلى نحو 4.8 من 5 للقبول بكلية الطب البشري، فمع تفوق الطلبة وزيادة القبول بالسنة التحضيرية للمسار الصحي بدأت الجامعات بإضافة معايير جديدة قلصت كثيراً القبول بكلية الطب وطب الإسنان والصيدلة من خلال إضافة وزن بالمعدل النهائي للسنة التحضيرية للاختبار التحصيلي بالثانوية العامة مع شروط أخرى فبات بعض الطلبة والطالبات ممن يحققون درجة كاملة بالسنة التحضيرية لا يمكنهم الحصول على قبول بكلية الطب البشري إذا كانت درجته بالتحصيلي أقل من 85 %، وهي تعد درجة عالية جداً مع بقية المعايير. فمع الاحتياج الكبير للتخصصات الصحية تحديداً الأطباء ألا يُعَدُّ ذلك التشدد بمعايير القبول من الأسباب التي تؤدي للاحتكار المهني؟! ويضاف لذلك اشتراطات معقدة أيضاً عند التخرج والتقدم للتخصصات الصحية والحصول على مقاعد التدريب التي لا تكفي إلا لنحو 50 % من الخريجين، بينما عند النظر بالدول التي يتم استقدام الأطباء منهالا نجد أنهم يعقدون معايير القبول بالكليات الطبية لهذا الحد، ولا تجد صعوبات أمام الطبيب الخريج للتدريب أو قبوله بتخصص بعكس ما يحدث عندنا رغم حاجتنا الماسة لزيادة الأطباء.
إن ما نتج عن هذا الاحتكار هو ارتفاع برواتب الأطباء حيث يصل راتب الاستشاري وفقاً للكادر الصحي لوزارة الصحة إلى أكثر من 52 ألف ريال، أي أعلى من راتب الوزير، وهذا بمحصلته يرفع من تكلفة العلاج من خلال ارتفاع فاتورة الرواتب التي تستحوذ على أكثر من 50 % على الأقل من ميزانية وزارة الصحة، فالطب مهنة عظيمة لكن لا يجب أن تكون نادرة لأن الجميع بحاجة لها، فالخدمات الصحية غير مرنة والجميع بحاجة لها مهما بلغت تكلفتها، ولذلك لابد من توفرها بكافة احتياجاتها، ومن بين ذلك زيادة عدد الأطباء بتكاليف معقولة حتى تتوزع ميزانية الإنفاق الصحي على توفير الأجهزة الحديثة والوقاية وإنتاج الأدوية، فالإنفاق على الرعاية الصحية في المملكة يعادل 4.5 % من الناتج المحلي، وهو أقل من المعدلات العالمية للدول المتقدمة عند 9 % من ناتجها المحلي، لكن إذا استبعدنا أثر إيرادات النفط فإننا نقارب تلك النسب العالمية بل نتفوق عليها ببعض السنوات التي كان سعر البرميل فيها فوق 100 دولار، لكن بغض النظر عن النسب فإن معدل الرضا وتوفير الرعاية الصحية ما زال أقل من المستهدف، وهناك إنفاق في أبواب تحد من وصول تلك الرعاية للمأمول بسبب أبواب الرواتب نتيجة انخفاض عدد الأطباء الذين لا يمكن تغطية احتياج المجتمع لهم من الخارج إطلاقاً، لأن هذه المهنة مطلوبة في كل الدول ولا تسمح الكثير من الدول بتسرب الأطباء من مواطنيها بسهولة بينما السياق الطبيعي أن تغطي كل دولة احتياجها من الداخل من أبنائها، ووفق هذه الصورة يظهر لنا سبب ارتفاع فاتورة الرواتب الذي يعني استمرار الحاجة لتقديم رواتب ومزايا عالية سببه احتكار المهنة وتقليص عدد المقبولين بكليات الطب رغم إنفاق الدولة لعشرات المليارات على الكليات الطبية والمستشفيات الجامعية بكافة مناطق المملكة، لكن العائد الاستثماري من ذلك محدود جداً بسبب الشروط التعجيزية التي تقلل عدد الطلبة المقبولين سنوياً.
الاحتكار المهني للتخصصات الصحية والطب البشري والأسنان على وجه الخصوص تسبب بأضرار ضخمة جداً، منها انكشاف مهني خطير وارتفاع باهظ بتكاليف العلاج وعدم القدرة على توفير الرعاية الصحية بالجودة نفسها والمستوى بكافة المدن خصوصاً الصغيرة، وعلاج ذلك يبدأ من تنسيق رباعي بين وزارات الصحة والعمل والتعليم والاقتصاد والتخطيط لإيجاد خطة عشرية ترفع نسبة التوطين لأكثر من 80 %، وتقديم حلول سريعة لإعادة هيكلة ميزانيات الجامعات وتوجيه الجزء الأكبر لتوفير احتياجات الكليات ومنع تلك الجامعات من الانفراد بالتخطيط لتغطية هذه المهن وإجبارها على المعالجات المطلوبة ووقف تلك الشروط التعجيزية التي تبقي الطب مهنة محتكرة بما تسبب بأضرار عديدة لاقتصاد الوطن والمجتمع.