عبدالعزيز السماري
عاد ما يقرب من 500 ألف نازح سوري إلى ديارهم هذا العام حسب الأمم المتحدة، عادوا يبحثون عن الوطن الذي ضاع بين مطارق السلطة وسندان الأرض المحروقة، عادوا وهم يرددون بيت شوقي الشهير «أوطني لو شُغِلت بالخُلدِ عنّه، نازعتني إليه في الخُلدِ نَفسي»، ولكن هل يدرك السياسيون بمختلف اتجاهاتهم قيمة الوطن، وهل يدركون أن الأوطان تنهار بسبب قراراتهم الفردية والمتفردة بالمصالح..
الوطن لم يعد تلك الديار التي تغنى فيها قيس بن الملوح في بيته الشهير، «ما حب الديار شغفن قلبي، ولكن حب من سكن الديار»، ولكن هو تلك المؤسسة الاجتماعية العملاقة التي ترعى مصالح وحياة ومصير ملايين من الناس، وفي انهيارها ضياع وتيه وهلاك للأغلبية، وهو ما يعني أن الوطن ضرورة قصوى في حياة البشر..
استقرارها مسؤولية عظمى، ويحتاج إلى جهد جبار، ولا يمكن قبول أي مخاطر تعصف بها كما حدث في سوريا وليبيا والعراق، ولو كان القابضون على السلطة في تلك البلدان يدركون جيدًا ما أقدموا عليه من تهور وجنون، لما أقدموا على قرارات تؤدي إلى التفريط بالوطن الذي كان يحتضن مصالح وحياة الملايين..
دائمًا ما يعطي مؤشر الفساد علامة لدرجة الإيمان بالوطن، وعلى قدرته على التماسك والاستقرار، وكلما زادت وتيرة الفساد المالي فأعلم أن هناك من يعتقد أن الأمان في هذا العالم من دون وطن هو المال، ولهذا يشتغلون على جمع الأموال واستثمارها في دول أخرى، وذلك استعدادًا لزمن القفزة العملاقة من قارب الوطن..
لكنهم لا يدركون أنهم مهما جمعوا من أموال لن تغنيهم عن الأمن الحقيقي في أوطانهم، ولهذا يعاني المهاجرون من ألم الغربة، ويصابون بالكآبة كلما عادت ذكريات الوطن في أحلامهم أو في يقظتهم، وسيظلون يُعاملون كغرباء في بلادهم الجديدة مهما توالت الأجيال..
لكنهم بالتأكيد في وضع أحسن وأكثر أمنًا من أولئك الذين تُركوا تحت أنقاض الجدران ينتظرون المساعدة من المجهول، فالقابض على السلطة والمستبد بالأمر يؤمن بأن الوطن أحد أغراضه الثمينة، ولا يمكن أن يفرط فيه مهما طالت المعركة وحدثت الكارثة..
عندما أنظر إلى الخلف وإلي الذكريات والمنجزات أرى وطني الغالي شامخًا في تلك الأيام وما زال وسيظل، وهو ما يزيدني إصرارًا على الإيمان بضرورة الأوطان في الحياة، وأنها مسؤولية عظمى على الجميع أن نحافظ عليها، وألا نفرط بمكتسباتها، إما بسبب أطماعنا وأهوائنا الشخصية، أو سوء فهمنا لهذه التركة العملاقة..
ما يزال عمر الأوطان قصيرًا في الشرق العربي عند مقارنته بالغرب، فالوطن في عالم العرب ما زال في مرحلة نمو وصبا، ويواجه صعوبات وأطماع وصراع غير عادي، وهو ما يزيد المسؤولية على الجميع في إدراك أن المغامرات والمهاترات تؤدي إلى انتكاسة وطنية، وقد تمزقه من الخارج.
من أزمات الأوطان الخانقة عدم إدراك السلطات في المجتمعات الشرقية لضرورة الوطن في حياتها وحياة الشعوب، وذلك لانشغالها في البحث عن كيفيات دوام السيطرة خارج رهانات التحضر والتحديث، ويشكل التطوير حجرة الزاوية في استقرار الأوطان، إضافة إلى محاربة الفساد المالي، الذي يعني أن هناك من لا يؤمن بحياة الوطن ويبحث عن خيارات أخرى خارج مصالح الوطن..
لا يختلف اثنان أن الأوطان ليست جوازًا للسفر أو حقيبة أو رصيدًا بنكيًا، وفي هذا العصر تجاوزت الأوطان مكانة من سكن الديار، وأصبحت بمنزلة الأكسجين الذي تعتمد عليه الكائنات في حياتها، وأن ضياعه يؤدي إلى الفساد العظيم وإلى هلاك البشر، ولهذا تبدو المسؤولية كبيرة جدًا على الجميع في ضرورة الحفاظ على أهم مكتسب في هذا العصر.. والله المستعان.