ما الأمل؟
كلما وقف بي المسير على شرفةٍ شعريةٍ ازداد يقيني بأن تاريخنا الشعوري مترادفٌ حضوره في الأنفس البشرية؛ لا يقرأ الفوارقَ إلا من كان حاذقاً في قراءة القواميس.
ليس الأمل الذي نفعله: كطبق من السكريات نقطع به أحاديث ملؤها الخيبة!
بوح مبتور!
هل تتصور أن أمماً متداخلةً من الألم تتصارع فيك كما يتصارع هذا العالم: يحمل القوي فيك على الضعيف، ويخونك الشعور إذا احتجت إليه، وتخون نفسك مع نفسك، ويخذلك منهجك الذي رسمته حين تفقد الوعي؟ هل تتصور أن كل هذا يجعل مِن رماد بوحك وساداً للثريا!
«سياحة الرماد»، «يقظة الرماد»، «صحوة الرماد»،
تاريخ للرماد تجسده هذه العناوين الثلاثة، يفتتحه البردوني بما لا نهاية له؛ لا عين سوى الخيال، ولا خيال سوى ما يريده صفاء الداخل:
«يُريد، ويمضي، إلى لا مُراد
يَخوض إلى الوعد موج الرماد.
ويرمي سفينته للحريق
تُنشد أهدابه لا ارتداد»
أين سيذهب به الطريق؟ لا بوصلات! لا شطآن! لا قعر للبحر!
سفرٌ على سفرٍ يصوغه في مقطع من ضياع في منافي الأسئلة.
ولما أججت الأسئلة في عقله أن مجرد التفكير في البحث عن الوجود المحسوس هو تفكير سخيف؛ قَلَبَ تراكيبَه كلها إلى حيث لا يصل إليه اللفظ:
«يغازل خلف امتداد الخيال
مدى للفنون عليه احتشاد
سواعده سُلَّمٌ للشموس
وأهدابه للثريا وساد
ذوائبه لُجج من رحيق
وأحضانه الخضر صيف جواد
لوافته من أغاني الطيوب
وأبوابه أذرع من وداد».
تجاوز البردوني كثيراً مِن الأمواج التي عصفت بمركبه، والتي ربما كثيراً ما نتوقف عندها؛ لأن النفس تفتقدها؛ مِن هنا يجيء زايد حاشد في قصيدته «يقظة الرماد» منادياً رماد الارتواء، جائعاً إلى روحٍ طالما وجد فيها سر البقاء، متسائلاً:
«متى سيكون اللقاء؟
أثم إذا ما ذبلنا
وكنا بقايا هراء؟
أثم إذا ما انزوى الري
عن وجنتينا
وكنا احتراقاً
وحباً أجاجاً
يكون اللقاء».
ثم يصرح بما في النفس من براءة:
«فما كان أحوجَنا للبقاء
ولو لحظةً في ادكار المساء»
لقاءٌ يكفي لامتصاص الخيبات:
«جفانا البريق
وحتى كؤوس الضياء
جفتنا».
ثم ها هو يُحيي ذاته بأملٍ بلقاء أبدي:
«وها نحن بعد العناء
أفقنا
نُنادي بقايا الرماد
نلملم أشلاءنا في خفاء
ونهرب مِن ألسن
محرقاتٍ حداد
إلى كوكبٍ مرمري
عليه يكون خلود اللقاء».
العطاء، الحصاد، المراد، الحلم كلها مِن مفردات الإيقاد؛ ولما كانت عسيرةً على النفس، ولما كان طريقها مكتظاً بالفشل، ولما كان الجوع إلى الأفضل من صفات البشر؛ جاء سعود اليوسف في قصيدته «صحوة الرماد» عائداً بالحديث إلى نشأته الأولى:
«دهشةُ الوقد أذهلتني لأنسى
أن سأغدو من بعد محض الرماد».
كلٌ أخذ من قبس حاتم الطائي القديم:
«كجمر الغضا هبت به بعد هجعة
مِن الليل
أرواح الصبا
فتنسما».
- أمل طوهري