تقديم المترجم: يسعدني تقديم ترجمتي لهذه الدراسة النوعية المهمة للبروفيسور مائير هاتينا. البروفيسور هاتينا هو أستاذ في قسم الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية، الجامعة العبرية في القدس. ونشرت الدراسة في مارس 2011:
وكان التيار الليبرالي هو أبرز ممثل للرأي الثاني، وكان هدفاً دائماً لهجوم الإسلامويين. وكان من ضمن ممثلي هذا التيار كتّاب رواد من الجيل القديم كتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس، الذين شاركوا في النقاش العام حول التحدي الإسلامي من خلال كتاباتهم المنشورة وظهورهم المتكررة في وسائل الإعلام؛ ولكن جهودهم كانت ضعيفة إلى حد ما، نتيجة الإرهاق الفكري وكذلك غياب الدعم من النظام الذي سعى إلى الحوار والمصالحة مع المتطرفين، وتحقيقاً لهذه الغاية غازل المؤسسة الدينية المحافظة. (66) وتخلّى كتاب آخرون اشتراكيون عن جفوتهم /كراهيتهم للدين ونقبوا في التاريخ الإسلامي بحثاً في التراث الأصيل عن ما يؤيّد أفكارهم. وكان هذا نتيجة هزال الفكر الاشتراكي الذي تولّد بسبب التحولات السياسية في أوروبا الشرقية خلال الثمانينيات؛ وهو تطور استخدمه الإسلامويون دائماً كأداة للمطالبة بتطبيق الشريعة في مصر. (67)
وكان أبرز رواد الخطاب الإسلامي المستقل خلال الثمانينيات الذين أُطلق عليهم لقب «التراثيون الجدد» هم: حسن حنفي، المتحدث باسم اليسار الإسلامي؛ وعادل حسين، رئيس تحرير جريدة الشعب التابعة لحزب العمل؛ وطارق البشري، وهو قاض ومؤرخ مرموق؛ وخالد محمد خالد. وجادلوا بأنه عبر تبني الإسلام يمكن التخلي عن مطلب المساواة التي تروج لها الاشتراكية الغربية، لأن الإسلام دين أخلاقي ومشبع بالعدالة الاجتماعية بالفطرة، ويمكنه سد الفجوات في المجتمع المصري. أكثر من ذلك، سيعيد الإسلام تأسيس نفسه عاجلاً أو آجلاً ككيان سياسي عالمي قوي. (68) وتكشف الدراسة المتأنية لكتاباتهم بأنهم بينما لم يتخلوا عن نهجهم الوضعي السابق، إلا أن هؤلاء المفكرين فضّلوا التراجع عن القوانين الأكثر فعالية التي يقدمها الدين. (69) المسائل المركزية في أعمالهم كانت تأكيد الانسجام بين الإسلام والديمقراطية والإسلام والاشتراكية، بجانب إثراء الفكر البشري عبر خبرة دنيوية. وكانت طريقة الجدال التي استخدموها مستمدة من نظرتهم العقلانية، أي التحليل الاجتماعي-التاريخي بدلا من التفسير الديني-العقائدي. لقد سعوا إلى تقديم إسلام ديناميكي غير مقيد بنص حرفي.
وجرى تقديم أيديولوجية «التراثيون الجدد» بوضوح خاص في كتابات خالد محمد خالد خلال تلك الفترة؛ ففي كتابه «الدولة في الإسلام» (عام 1981)، أكد خالد إيمانه بالوحدة العضوية بين الدين وبين السياسة في الإسلام، وهي الفكرة نفسها التي رفضها في كتابه الأول المثير للجدل «من هنا نبدأ» قبل ثلاثة عقود. يقول خالد: «الإسلام هو دين ودولة، وحقيقة وسلطة، وثقافة وحضارة، وعبادات وسياسات»، وجادل في هذا الكتاب، وفي مذكراته التي نشرت في عام 1995 أن إصراره السابق على فصل الدين عن الدولة نتج عن سوء الفهم، وأنه تأثر بعاملين: أولا، التأثير المرعب للسجل التاريخي للأنظمة الدينية في أوروبا خلال العصور الوسطى حيث جرى التعذيب وسفك الدماء بشكل منهجي، وقيامه بإسقاط ذلك على التاريخ الإسلامي كما تجلى في قسوة الحجاج بن يوسف في القرن الثامن؛ والثاني، القوة التي حققتها جماعة الإخوان المسلمين خلال الثلاثينيات والأربعينيات والتي تجاوزت الوعظ لتؤسس «جهازا عسكريا سريا». وأدى هذان العاملان إلى أن يستنتج خالد أن مصلحة الإسلام تتطلب الانفصال عن جميع الجوانب السياسية؛ ولكن استقبال ترجمة كتابه «من هنا نبدأ» بحفاوة في الغرب، أثار السؤال الآتي: ألم يكن خالد يزود خصوم الإسلام بذخيرة لمهاجمة الإسلام؟ ووفقاً لخالد، فإن القراءة المتأنية للتاريخ الإسلامي قادته إلى استنتاج جديد، وهو تحديداً أن هناك فرقا كبيرا بين الأنظمة الأوروبية وبين الأنظمة الإسلامية: فقد تجسد النظام الأوروبي في السلطة غير المستنيرة للكنيسة في القرون الوسطى، في حين أن النظام الإسلامي كان مليئاً بالمثل الحميدة من سنة النبي وخلفائه، بالرغم من وجود استثناءات قليلة تمثلت في انحراف استبدادي عن النموذج الديني القويم.
الديمقراطية ليست ظاهرة مستوردة، بل إنها من الأمور الكامنة ضمنياً في الإسلام.
ويذهب خالد إلى أن رفض النموذج الغربي في الفصل بين الدين وبين الدولة لا يعني بالضرورة اعتناق فكرة الحاكمية المتشددة، أو حتى المفهوم الإخواني الأكثر اعتدالا أي حكومة مدنية تحكم بالشريعة؛ فليس هناك مجال في الإسلام، يؤكد خالد، لحكومة تستمد سلطتها من الإرادة الإلهية، أو أن تضع نفسها فوق مبادئ العدل والقانون. ولا يتسق مع الإسلام إلا الديمقراطية فقط، كنظام سياسي يقوم على أساس عقد اجتماعي بين الحاكم والمحكومين مع تطبيق مبادئ الحرية والعدالة. (71) ويؤكد خالد: «الحاكم هو فرد في أمة وليس أمة في فرد». (72) وبناء عليه، فإن الديمقراطية ليست ظاهرة غريبة أو مستوردة؛ بل إنها من الأمور الكامنة ضمنياً في الإسلام ، وفي الحقيقة يمكن العثور عليها عملياً وصراحة في فكرة الشورى. وما يزعمه بعض العلماء المسلمين بأن الشورى مُعْلِمَةٌ وليست مُلْزِمَة للحاكم يعد سخرية من إرادة الغالبية الذين يشكلون المصدر النهائي للسلطة السياسية. ويصر خالد على أن الشريعة لا يمكن تنفيذها إلا فقط في ظل حكم ديمقراطي يهدف إلى تعزيز الأخلاق الاجتماعية. وهذا سيتطلب فقط تغييرات بسيطة في القانون الوضعي الموجود فيما يتعلق بتطبيق الحدود أو بعض المسائل المدنية والتجارية. (73).
ويشير اتساق خالد الفكري الكامن، أي تحديداً استمرار ولائه لأفكار ليبرالية-اشتراكية، إلى أن تحول نهجه إلى الإسلام كان موجهاً، لدرجة كبيرة، إلى توفير الشرعية الدينية لفكرة الديمقراطية الغربية. حقاً، إن سحب المحتوى الليبرالي-الاشتراكي من الفكر الليبرالي السياسي الذي فشل في أن ينغرس ويترسخ في السياق المصري، وتجدد الحماس الديني دفع خالد (وغيره) إلى الغوص في التراث الإسلامي بحثاً عن إلهام سياسي؛ ولكن هذا المسعى كان محكوما بالفشل منذ البداية لأن خالدا، بوعي أو بلا وعي، ربطه مع الفكر الغربي الذي نشأ عليه طوال حياته. وليس من المستغرب، إذن، أن النتائج التي توصل إليها لم تتعارض في الأساس مع المفاهيم الغربية، مثل ربطه بين الديمقراطية وبين الشورى، الذي كان قد أشار إليه منذ الخمسينيات. (74)
يتبع
ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى - الدار البيضاء
hamad.aleisa@gmail.com