د. إبراهيم بن محمد الشتوي
لولا أني لا أحب أن أغضب جمهور ومحبي الراحل غازي القصيبي - رحمه الله- لقلت إن هذه المادة المكتوبة بين دفتي كتاب اسمه «حياة في الإدارة» رواية تخييلية، يقوم فيها الخيال بدور كبير كأي رواية واقعية، إلا أنني سأتفادى هذا الغضب بألا أقول هذه الرؤية، وأعتبرها سيرة ذاتية تقول الحقيقة ولا غير.
بيد أن هذه الرؤية والشعور حيال النص المكتوب يعزِّز رؤية «بارت» في كتابه «هسهسة اللغة»، و»أمبرتو إيكو» في كتابه «الزمان والسرد»، حينما يقفان على التداخل بين التاريخي والتخييلي، ويعدان كل واحد منهما قريبا من الآخر.
وهذه السيرة الإدارية التي تفضل الدكتور غازي القصيبي بتقديمها للقارئ، تكشف عدداً من جوانب دهاليز المؤسسة الإدارية على كل مستوياتها على الرغم من عنايتها بالأساس بتسليط الضوء على تجربة الكاتب، ورؤيته الإدارية بالدرجة الأولى.
ومع أنها تسلط الضوء على حقبة تاريخية سابقة، فإن السؤال عن سبب كتابة هذه السيرة بعد أن ذهبت تلك الأيام بحلوها ومرها، وبعد أن استطاع غازي/المؤلف أن يعيد اسمه إلى الأضواء مرة أخرى بعد أن ظنه «منافسوه» قد ذهب إلى غير رجعة، وهو ما يعد الرد الفعلي على تلك المواقف، ورد الاعتبار الحقيقي بعد الاعتبار الرسمي، مما يغني عن كتابة هذه السيرة وما جاء فيها من بيانات دفاع واضحة، أقول: إن السؤال لا يزال مطروحا.
لكننا إذا استبعدنا مسألة الدفاع عن نفسه، وتجميلها بسرد موقفه الشخصي من كل حالة لاكتها ألسنة الإعلام، وقلبتها على كل وجه قد لا يكون منها وجهة نظره الخاصة، وهذه إحدى وظائف السيرة الذاتية -على كل- التي لا يستطيع أحد أن يبرئ السيرة الذاتية منها، وقد سارت بها الركبان، إذا استبعدنا ذلك بوصفه يريد أن يقدم الدروس والعظات، والتجربة لمن جاء بعده، كما امتلأت بها السيرة.
مع هذا، فإننا لا يمكن أن ننكر الجانب التجميلي والدفاعي الذي أشرت إليه من قبل بوصفه أحد وظائف السيرة الذاتية، ولأن السيرة الذاتية «حياة في الإدارة» قد تناولت في صفحات عدة موضوعات كانت تشغل المتحدثين عن الجانب الشخصي للراحل، وهذا يتجلّى مثلاً في حديثه عن «الشعبية» التي نالها منذ بدأ عمله في الجامعة.
والذي أريد أن أقف عنده أولاً - وما أظن الكاتب غافلا عنه- هو أن الشعبية مسألة نسبية، فقد يظن الإنسان أن له شعبية، في حين أن شعبيته لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، الذين يمرون به غدوا ورواحا، وهو في الحقيقة لا يملك شيئاً من ذلك، وهو ما عبر عنه أحد النقاد الفرنسيين في وصف حركة الرواية الجديدة في فرنسا حين قال: «زوبعة في فنجان»، ولا يعني هذا أنني - والعياذ بالله- أطعن في «شعبية» أستاذنا الكبير، ولكني أقول: إنها مسألة نسبية، ولا يمكن للإنسان دفعها أو ثباتها بناء على شعوره الشخصي، فلله عباد يوهمون الإنسان بشعبيته، وإن كان في الحقيقة لا أحد يأبه به، والكاتب على كل ليس منهم.
أقول إن محاولة دفع الكاتب تهمة «الشعبية» وكأنها «الشعوبية» أمر يلفت الانتباه، وكأنه يراها سبة، من جهة، وهي ليست كذلك، بيد أنه يقدم جوابا على سؤال عن سبب كتابة السيرة. على أنه من المهم القول: إنه لولا الشعبية التي يحظى بها منذ البدء لما تولى عمادة الكلية، وقد يكون دفاع الكاتب يتركز على كونه لم يسع إلى هذه «الشعبية»، وأنها لا تهمه.
قد تكون -الشعبية- كغيرها، تأتي حين يعمل الإنسان ما يستحقها، غير أن قول الكاتب في بعض المواقف: «فلتذهب الشعبية إلى الجحيم» يبين وعيه بها، وبمتطلباتها، وأنها كانت حاضرة في ذهنه، وذهن من حوله بوصفها موضوعا للنقاش، هل يدفعني هذا إلى القول بأن في هذا الموقف ما يناقض ما قاله عن عدم سعيه إلى ذلك؟ لن أجيب على هذا السؤال لأنه -في الحقيقة- لا يهمني، خاصة وان «الشعبية» لم تحكم الكاتب بناء على المقولة المشهورة: «الجمهور عاوز كذا»، وإنما كان متفقا معها في الوقت الذي تكون متفقة مع منطلقاته، وهذا يعني أنها -الشعبية- بناء على أن تعريفها الحقيقي ليس الحب، ولكن تحقيق المعايير التي يتطلبها الشعب (عامة الناس)، وجعل مصالحهم الأساس الذي يبني عليه مواقفه الإدارية، والقرارات التي يتخذها.
ولعله يمكن القول: إنه بناءً على المقولة السابقة - الجمهور عاوز كذا- يتبيّن أن العلاقة معه ليست بتلك السهولة، فالجمهور الذي تنبني على العلاقة به «الشعبيبة» لديه توقعات، ينبغي أن يحققها من يتعرض للجمهور. هذه التوقعات انبنت من خلال مرحلة طويلة من الخبرات الاجتماعية، والمعرفية، بعضها قد يكون مغلوطاً بوصف هذا الشخص ابن بيئته، ويتأثر بها. وهذا ما سأبدأ به المقالة القادمة.