يكتسب مهرجان السينما الفلسطينية في فرنسا أهمية ثقافية، كونه متخصصاً بالسينما الفلسطينية. ولكن مهرجان السينما لهذه السنة، له أهمية ونكهة خاصة حيث في شهر تشرين الثاني يكون قد مر قرن من الزمان على وعد بلفور عام 1917 المناسبة التي يفترض بالبرامج التلفزيونية العربية ومهرجانات السينما أن توليها الاهتمام المناسب! وفي تقديري أن مهرجان السينما الفلسطينية ينبغي أن لا يقتصر على الأفلام الفلسطينية الروائية منها والوثائقية، بل يتعدى ذلك ليصبح مهرجاناً للسينما العربية، فلم تعد القضية الفلسطينية وحدها منفصلة عن الواقع الثقافي العربي الذي يشترك بنفس الهموم ويتفاعل إيجاباً وسلباً بسبب طبيعة الأوضاع السياسية القائمة في المنطقة.
المهرجان عرض ويعرض نماذج من تاريخ السينما الفلسطينية التي كانت تنتج في لبنان في فترة السبعينات حتى الغزو الإسرائيلي لبيروت عام 1982 ولكن بعد فترة الثمانينات وبعد توقيع اتفاقية السلام وعودة منظمة التحرير إلى رام الله وتشكيل السلطة الفلسطينية فإن العالم بات ينظر إلى الثقافة الفلسطينية وإلى السينما الفلسطينية نظرة فيها الكثير من الدعم كي يخفف من صوت البندقية ومن التوتر المسلح في المنطقة. ولهذا السبب بات الفيلم الفلسطيني يحظى بدعم مؤسسات أمريكية وأوربية، ما ساعد ذلك على ظهور أفلام فلسطينية ذات مستوى فني رفيع، فأصبح السينمائي الفلسطيني موضع رعاية صناديق دعم العالم للثقافة الفلسطينية السينمائية، والاقتصاد هو عنصر مهم في الصناعة السينمائية. فتوفر الدعم يتيح للمخرج استخدام أعلى أشكال التقنية والاستعانة بكتاب السيناريو. وهو عكس ما كانت تعانيه سينما المقاومة الفلسطينية التي كانت انعكاساً لطبيعة الثورة والمقاومة الفلسطينية في لبنان. ولذلك عانت السينما الفلسطينية من ظروف إنتاج غير طبيعية واقتصر إنتاجها على الأفلام الوثائقية. عدا تجربة فيلم "عائد إلى حيفا" وهو الفيلم الروائي الوحيد في سينما المقاومة الفلسطينية من إخراج كاتب هذا المقال "قاسم حول" عن رواية غسان كنفاني والذي اختتم مهرجان السينما الفلسطينية فرنسا برنامجه بهذا الفيلم وسط حضور كثيف من الجمهور العربي والفرنسي.
البدايات..
لم يكن أحد ليعرف من الذي صور أول جريدة سينمائية مصورة في منتصف الثلاثينات عن زيارة ولي عهد مؤسس المملكة العربية السعودية إلى فلسطين وزيارته المسجد الأقصى، لولا أنني كنت في أحد الأيام أعرض المجلة السينمائية المصورة في مخيم شاتيلا، وأقترب مني شخص وقال لي هناك شخص من معارفي واسمه "إبراهيم حسن سرحان" كان سينمائياً في فلسطين. سألته أين هو قال لي "تعال غداً نزوره في بيته وهو الآن يوفر عيشه من الحدادة، حيث يعمل سنكرياً. في اليوم التالي ذهبت أول ما ذهبت إلى الدكان الذي يعمل فيه حداداً سنكرياً وصورته ففوجئ بالكاميرات وهي تلتقط له الصور. وزرته ليلاً في بيته. لم أصدق عيني ما رأت. فتح لي صندوقا قديماً وأخرج لي أمتاراً كثيرة من الأفلام، حيث عندما حصلت النكبة عام 1948 واضطر لمغادرة فلسطين لم يستطع أن يحمل معه تلك العلب السينمائية التي تزن مئات الكيلوغرامات فاقتطع بضعة أمتار من كل فيلم. كما وأخرج من الصندوق صورا فوتوغرافية وهو يقوم بمونتاج الأفلام ونسخاً من الصحف الفلسطينية التي تنشر الإعلانات عن أفلامه. أخذتها وصورتها وأصدرت عنه وعنها كتابا عن "دار العودة" يحمل عنوان "السينما الفلسطينية" وأصبح الكتاب مرجعا لكل السينمائيين الفلسطينيين ومادة لنيل شهادة التخرج الأكاديمية. قال لي "إبراهيم حسن سرحان" لقد صورت سمو ولي العهد المملكة العربية السعودية، ورافقته في زيارته للمسجد الأقصى وعرضنا الفيلم في كل صالات السينما الفلسطينية قبل برنامج العرض النظامي. وهي أول جريدة سينمائية مصورة تصدر في فلسطين. وبعدها يقول "إبراهيم حسن سرحان" أخرجت فيلماً روائياً فلسطينياً عنوانه "في ليلة العيد"، وبعد أن هجرنا من فلسطين أخرجت فيلما فلسطينياً أردنياً مشتركاً عنوانه "صراع في جرش" وانتقلنا إلى لبنان وعشت في المخيمات وعملت حداداً سنكرياً. في اليوم التالي طلبت من الثورة الفلسطينية أن تكرمه وأن تخصص له مرتبا لكي يترك مهنة الحدادة وهو في عمر متقدّم وعينته معي في قسم السينما. توفي بعد أن غزت إسرائيل العاصمة اللبنانية.
عودة إلى مهرجان السينما الفلسطينية في باريس
تقول الباحثة الفلسطينية البروفيسور "نادية يعقوب" الأستاذة في جامعة كارولينا بولاية كارولينا الأمريكية بأن سينما المقاومة الفلسطينية: قدمت درساً مهماً لم تدركه السلطة الفلسطينية. وتقريباً نسيت السلطة الفلسطينية والسلطة الثقافية ذلك الدرس، ولم تحتفظ بتلك الذاكرة السينمائية الفلسطينية، ولذلك فإنها قرّرت أن تعمل دراسة مستفيضة لسينما المقاومة الفلسطينية وكتبت كتابا هاما يتضمن دراسة لظروف الإنتاج السينمائية في لبنان وحقبة سينما المقاومة الفلسطينية ويعتبر الكتاب وهي تضع عليه اللمسات الأخيرة، ومتوقع صدوره في نهاية هذا العام أو بداية العام القادم باللغة الإنكليزية. وكأي باحث أكاديمي في الجامعات الأمريكية فأنها سافرت إلى لبنان وصورت كل الصحف الفلسطينية والمجلات، صورت صفحاتها الثقافية لأكثر من عشرة أعوام كمرجع لمعرفة الأفلام السينمائية المنتجة ووحدات السينما الفلسطينية. حتى تحصل على مفاتيح مشاهدة جميع الأفلام السينمائية والكتابة عنها من وجهة نظر موضوعية غير منحازة والاتصال بمخرجي تلك الأفلام لمحاورتهم ونشر آرائهم في الكتاب.
بالنسبة لي، فإن كل الأفلام الفلسطينية المنتجة في إطار الثورة الفلسطينية على مستوى الحلم الإبداعي، فإنها أقل من المستوى الفني المطلوب بسبب ظروف موضوعية إنتاجية وسياسية، ولكن أهميتها تكمن في أنها وثقت الواقع الفلسطيني في تلك المرحلة. أخرجت فيلم النهر البارد، بيوتنا الصغيرة، الكلمة البندقية، لماذا نزرع الورد، وأصدرت أربع أعداد من مجلة الهدف المرئية. ووثقت بناء كلية عسكرية مع مدرسة كادر تحت الأرض وهي مدرسة للكادر الفلسطيني السياسي والعسكري، كما صورت تقدم القوات الإسرائيلية في تبنين لتطويق مدينة صور التي تركها أهلها بالكامل عام 1978 صورت مدينة صور خالية من ساكنيها. وهي مطوقة من قبل الزوارق الإسرائيلية. كما قدمت المساعدات من استخدام الكاميرات واستخدام جهاز المونتاج الحديث "المافيولا" السينمائية، واستخدام لعدد من السينمائيين العرب، وقدمت لهم كافة التسهيلات لتصوير أفلامهم في القواعد والمخيمات الفلسطينية. ولكن ما حققته كان مع فريق عمل مهني ممتاز "كمال حداد، جبريل عوض، مازن فضة، فؤاد زنتوت، محيي الأشيقر، محمود خليل، وعلي فوزي. ومع هؤلاء الأبطال وثقنا سينمائياً الحقائق الموضوعية على أرض الواقع. وعلى سبيل المثال فإننا في عام 1973 صعدنا في باخرة روسية عملاقة وكنت أصور فيلم "لماذا نزرع الورد" ومعنا أغلب كوادر الثورة الفلسطينية، دهمتنا في البحر الزوارق العسكرية الإسرائيلية وكانت بصدد إبادة كل كوادر الثورة الفلسطينية. وألبسونا زوارق النجاة يومها وكنت وضعت الكاميرا على كتفي منتظرا نشوب المعركة، لم نكن نعرف بأن ثمة غواصة روسية كانت ترافقنا تحت الماء، فخرج جسمها الأسود مثل سمكة عملاقة تنفض المياه عن ظهرها، وحالت بيننا وبين الزوارق الإسرائيلية. هذه المشاهد وغيرها كلها وثقت وصورت وقد وقع بعضها في قبضة الجيش الإسرائيلي عام 1982 .
وهناك سينمائيون فلسطينيون في فصائل فلسطينية، مثل سينمائيي حركة فتح "سمير نمر، أبو علي مصطفى، خديجة حباشنة، هاني جوهرية، أبو ظريف، مروان سلامة" وهناك سينمائيو الجبهة الديمقراطية رفيق حجار ومحمد توفيق، هذا إضافة إلى القسم الثقافي الذي كان يترأسه عبد الله حوراني ويديره أحمد الجمل. وعمل فيه عدنان مدانات الذي أنجز واحدا من الأفلام الجميلة وهو فيلم "رؤى فلسطينية" عن موسيقي فلسطيني قعيد هو "إبراهيم غندور" وكذلك إسماعيل شموط وهم من رواد الحركة التشكيلية الفلسطينية الذي أنتج فيلما عن الفن التشكيلي الفلسطيني. وهناك بعض السينمائيين العرب الذين صوروا أفلاماً داخل لبنان في القواعد والمخيمات ومنهم المخرج السوري "محمد ملص" الذي صور فيلم "منامات فلسطينية" والسينمائية الوثائقية المصرية وهي من أصول فلسطينية "نبيهة لطفي" التي صورت فيلم "تل الزعتر" بعد أن خرجت منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وتوزعت بين تونس وبعض البلدان العربية وأوربا وفي مبادرة للسلام تشكلت في فلسطين سلطة فلسطينية وبدأ السينمائيون الفلسطينيون يعملون من داخل فلسطين وتتوافر لهم فرص الإنتاج بدعم عالمي وعربي خليجي. والعالم موضوعياً يريد للثقافة الفلسطينية أن تزدهر، ويريد لها أن تزدهر أكثر في حال كان مزاجها العام يجنح نحو السلام!
فيلم مغني غزة..!
قصة تألق المطرب الفلسطيني الشاب "محمد عساف" من قطاع غزة والذي تقدم للمشاركة في برنامج "عرب أيدول" الذي تقدّمه قناة إم بي سي الفضائية، حولها المخرج "هاني أبو أسد" إلى فيلم سينمائي روائي منذ طفولة "محمد عساف" حتى نجاحه بالفوز في برنامج إم بي سي، نجح المخرج "هاني أبو أسعد" في تجسيد قصة حياة هذا الشاب مذ كان طفلاً حتى تألقه كمطرب وقد أدى طفولة "عساف" طفل مدهش في أدائه وكذلك مرحلة الصبا الذي مثله شاب من مدينة حيفا، ممثلون تمكن المخرج من إدارتهم لأداء أدوارهم ضمن مواقع تصوير أختارها ببراعة متناهية. وفرت له صناديق دعم عربية في لندن وفي الإمارات العربية المتحدة إمكانية إنتاج الفيلم!
اسم غزة كما يقول المخرج "مرادف الصراع والدمار واليأس" محمد عساف وأخته تعتبر الموسيقى هي ساحتهم. هم في طفولتهم يعزفون الموسيقى ويمارسون هواية الرياضة وهذا هو حلمهم للوصول إلى حيث دار الأوبرا في مصر. بعض الأحلام تستحق المتابعة.. وهي مقولة محمد عساف في نضاله في الوصول للحلم والدخول في المسابقة مع ثقته بنفسه. عرض الفيلم للمرة الثانية في النسخة الثالثة للمهرجان يعني ما يعنيه من أهمية هذا الفيلم على المستويين الفكري والفني الجمالي.
ميشيل خليفة ومحمد بكري
عرض المهرجان من تاريخ السينما الفلسطينية فيلم "عرس الجليل" لميشيل خليفة الذي دعم من قبل صندوق الدعم في بلجيكا. وكانت أفلام ميشيل خليفة موضوع رعاية مهرجان النسخة الثانية من المهرجان عام 2016، أما رعاية نسخة 2017 فكانت من نصيب المبدع الفلسطيني محمد بكري وقد عرض فيلمه الجميل "جنين جنين" في إطار "prospective" محمد بكري الببغاء مخرجون شباب صاروا يبادرون لتصوير أفكار جديدة في المسار الفلسطيني في أفلام قصيرة وثائقية وتجريبية، مثل فيلم الببغاء للمخرجة الأردنية الواعدة دارين سلام، طاقات فلسطينية قدمها المهرجان، سينمائيون جدد مثل المخرج علاء أشقر الذي يتوقع أن يحقق إنجازات سينمائية تعبر عن معاناة الشعب الفلسطيني. مهرجان السينما الفلسطينية في باريس نافذة أوربية يطل من خلالها العالم على فلسطين وشعبها الفلسطيني. فهل توقفت الذاكرة الفلسطينية والإنتاج عن مرحلة سينما المقاومة الفلسطينية في لبنان؟ سؤال يجيب عليه المخرج الفلسطيني "جبريل عوض" الذي سيتذكر تلك المرحلة من خلال شاب سويسري حالم عاش تجربة المقاومة الفلسطينية. ووثق الواقع من خلال الملصقات.. كان يعزف على الجيتار ويغني ويرسم أحلاماً جميلة هو الفنان السويسري "مارك روبين" المخرج السينمائي الفلسطيني "جبريل عوض" بدأ بتصوير فيلم سوف يلخص ذلك الحلم ويحمل اسم "مارك روبين" نتمنى أن تفتتح به النسخة الرابعة من مهرجان السينما الفلسطينية.