كنت مغرماً بالأفلام المصرية منذ أن كانت محطة الظهران التلفزيونية هي الوحيدة العاملة في الفضاء! ونتابعها جميعاً كعائلة، وكأننا نرى الحياة من خلال نافذة، ونفرح كلنا فرحًا فطريًّا عندما ينتفض فريد شوقي ليضرب المجرم محمود المليجي ضرباً مبرحاً، وينتهي الفيلم بانتصار الخير على الشر! ثم يصبح ذلك الفيلم حديث الساعة للصغير والكبير. وبالرغم من تكرار الفكرة في كل فيلم إلا أن التفاصيل تبقى هي الجديد. وفجأةً بدون سابق إنذار يخرج إلى الوجود فيلم (الأرض) الذي تحول فيه المجرم محمود المليجي إلى فلاح (غلبان)، لا ذنب له سوى أنه ينتج ما يأكله! فيتآمر عليه رجل الدين والعمدة والشرطي وشيخ القبيلة وأبناء العم، ثم يموت متشبثاً بأرضه بيديه ورجليه وولده وروحه.
تحوَّل وحش الشاشة ورمز الشر إلى نموذج أرقى من كل النماذج السينمائية والإنسانية المعروفة لوعيي ووعي رفاقي من الفئة العمرية في ذلك الوقت. ثم رحنا نتسابق في قراءة قصص نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وغيرهما مع يقيننا أنها أُخرجت أفلامًا، ثم نعقد حوارات حول تفوق القصة على الفيلم، وهل استطاع المخرج تجسيد المعاني الأساسية للقصة؟ وهل استطاع البطل (الممثل) استيعاب دوره ودور الشخصيات الأخرى حوله؟
ربما كان هناك الكثير من الأفلام المشابهة، أو أنها أفضل من فيلم الأرض، ولكني أتحدث عما جرى لوعيي أنا وأصحابي من الفئة العمرية تلك، فلم يكن ارتقاء للوعي وحسب، إنما نقلة نوعية له من السطحية في الصراع بين الخير والشر إلى (الواقعية) في تناول الظلم والاستبداد والقهر وتصنيف الدور الاجتماعي لكل شخصية من الشخصيات الاجتماعية المختلفة في تسويق الظلم أو الانتصار للمظلوم. ولم تعد صحوة الغني في اللامكان واللازمان أو عطفه على الفقير هي الحل، ولا المخلِّص أو (سبع البرمبة فريد شوقي) الذي يأتي من اللامكان واللازمان هو الحل أيضاً، إنما تشبث الفقير (المنتج) المقهور بأرضه وعرضه ووطنه ومقارعة الذل والاستبداد هو الحل!
بعد (كامب ديفيد) تسطحت أو (تتفهت) السينما والمسرح المصريان، حتى الصراع الخيالي بين الخير والشر والمخلِّص الأسطوري قد اختفى تماماً، وحلّت محله الأفلام الأمريكية (العظيمة!) التي يكون فيها البطل هو الأعور الدجال والمسيح والمهدي المنتظر في آن واحد، وهو كذلك الظالم والمظلوم والغني والفقير والضعيف والسوبرمان والرقيب والمتسلل والنذل والرحيم، أي أن كل الصفات الإنسانية والحيوانية مجتمعة فيه. هذه الصفات لا تنطبق على أمريكي واحد وحسب، إنما كل أمريكي هو بطل كامن في ذاته، خالٍ من العيوب ومليء بها في آن. أما أنت المشاهد (المتلقي) فليس لك خيار في حل مشاكلك الاجتماعية إلا انتظار أن يأتي إليك الأمريكي بالغلط أو بدونه ليحلها!.. هذا (الفن الراقي) هو غسيل مخ، يهدف إلى جعلك مشلولاً، لا تقوى حتى على الرؤية أين الخطأ وأين الصواب؟ وألا تعي ذاتك ولا قدراتك، وإذا تجرأت و(فكّرت) فأنت كافر أو على أقل تقدير تؤمن بـ(نظرية المؤامرة)، وإن ساورتك الشكوك حول قدرة هذا الأمريكي الفذ يضع لك ملاحظة في العنوان قبل بدية الفيلم (هذا الفيلم مبني على «قصة حقيقية»).. الغريب العجيب أنني لم أسمع شخصاً واحداً - لا من النخبة ولا من غيرها - يكفر الأفلام الأمريكية أو السائرة في فلكها كالأوروبية والهندية والتركية والمكسيكية وغيرها! فالتكفير واقع علي أنا كمتلقٍّ حتى لو انتقلت من غسيل مخ إلى آخر دون رحمة (أمريكية).
تنفست الصعداء من أول حلقة لطاش ما طاش للمبدع الفذ ناصر القصبي وعبدالله السدحان، اللذين أنقذا وعيي من الغسيل الجائر، وأنجزا أعمالاً أرقى مما يمكن أن يتوقعه عقل مغسول كعقلي، واستطاعا التوفيق بين الواقعية وخصوصية هذا البلد وباقتدار أسطوري، ثم يأتي من يكفرهما بدون خجل!
وضعني ناصر القصبي في (سلفي) أمام المرآة لكي أرى وجهي الذي لم أره منذ كامب ديفيد، ولا يهم إن كان وجهي مقبولاً أو قبيحاً، المهم أنني أخرج أنا وأمثالي من الاستعباد - ولا أقول الغزو - الثقافي الاستعماري، وأعي أنا وأقراني في بلدي وفي الخليج والعالم العربي ذواتنا وواقعنا والرياء الأمريكي وغير الأمريكي، وعدم اجترار الأمجاد الغابرة والخروج من اليأس والشعور بالذل. إنه لا يبدع من أجل أن يكسب مالاً، بل وضع كل طاقاته لانتشالي من الحضيض الذي يحاصرني من كل صوب، ولم يقتصر على ذلك إنما يحاول جاهداً توظيف طاقات زملائه المبدعين من الممثلين والكتاب والمخرجين في إنتاج عذب وخلاق بدل الفوضى الإعلامية - الفنية (الخلاقة).
- عادل العلي