لعلِّي أنطلق هنا من تأسيس سابق في بعض بحوثي حول المثقف بأنه لا دقة في أطروحة (المثقف المستقل) ؛ إلاّ إذا افترضنا الضدية مع (المثقف المناضل) ؛ أما الاستقلالية بمعنى نبذ كل الأيديولوجيات فهذا ليس في مقدور الفكر البشري التخلص منه فضلاً عن المثقف .
وبعد هذا التقديم فإنّ المثقف هنا هو (مُنتَج) - اسم مفعول - للسلطة ، فالسلطة تنتج (المثقف النموذج) الذي يدافع عنها ويكون (المثقف الرسول) - كما أطلقت عليه في مقالات سابقة - ؛ والسلطة هنا ليست السلطة السياسية فحسب ؛ بل جميع السلطات كالدينية والاجتماعية ؛ وهذا ما يولد لنا (المثقف المناضل) عن هذه السلطة والمدافع عنها باعتبارها الخلاص (الفردوس المفقود) ، وسيكون دور السلطة هنا مكافئًا له ؛ بالتبجيل والعطاء بكل أنواع العطاء المادي والمعنوي ؛ فيصير المثقف رهين هذا العطاء ورهين تلك التبجيلات التي يمنحها له المجتمع ؛ ولعل النموذج المثقف (المناضل) عن المجتمع والذي يصرح بهذه المناضلة ويفتخر بها خير مثال لإنتاج سلطة المجتمع لمثقفها ؛ ومنحه الحق العام بالحديث عنها وتمثيلها باعتبارها منتجة له .
وربما يكون الإشكال الأكثر ظهور من إنتاج السلطة لمثقفها هو الارتهان بها والتحول من كونه ناقدًا لكل السلطات على كونه مدافعاً عنها ومنغمساً تحت قوّتها ؛ فالسلطة الاجتماعية تفرض قوّتها على المثقف المناضل بالمدافعة عنه وبالشهرة ؛ كما أن السلطة السياسية تفرض قوّتها عليه بالمادية والشهرة أيضا ؛ وتفرض السلطة الدينية قوّتها بمنحه التوقيع عن الله والسمع والطاعة له وتحويلها إلى جماهيرية، وبالخصوص في مرحلة مواقع التواصل الاجتماعية التي نرى فيها غلبة كبيرة جداً لمتابعة (مشايخ مواقع التواصل الاجتماعي) ، فالإشكال هنا مرتهن بالاستحواذ على حرية التفكير والبحث ؛ فيتحول المثقف من كونه باحثاً مفكراً على كونه مناضلاً ومدافعاً . ولعل هذه العلاقة الإشكالية بين المثقف والسلطة عموماً وبين المثقف والسياسي بالخصوص، تبين لنا مدى إمكانية تحويل المثقف إلى (مُنتَج) - اسم مفعول - لا (منتِج) - اسم فاعل - ؛ فهو مفعولاً به لا فاعلاً ؛ ويصير مسوقاً للأفكار لا منتِجًا لها ؛ وعند هذا الحد يكمن الإشكال في اصطلاح المثقف ؛ أعني عند كونه مستهلكاً للأفكار لا منتجاً لها .
وأما السلطات كلها فمن مصلحتها (إنتاج المثقف) ومنحه العديد من المزايا التي تجعله ناطقاً باسمها مدافعاً عنها ؛ فالمصلحة هنا تبادلية بين المثقف والسلطة / المنتِج ، ولهذا فإننا نستطيع بكل يسر أن نصنف المثقفين باعتبار السلطة التي يخضعون لها ؛ بين كونه مثقفاً دينياً أو مثقفاً مناضلاً عن المجتمع أو مثقفاً حكومياً ؛ فالتصنيف هنا يعكس أثر السلطة المنتِجة للمثقف.
- صالح سالم