يعتبر مصطلح الأيديولوجيا من أكثر المصطلحات تداولاً وأكثرها، في نفس الوقت، غموضاً. ولا يقتصر الشعور بالغموض من قبل عموم المتعاطين معه في المجالات الصحفية والإعلامية والثقافية لكنه ينسحب أيضاً علي المفكرين والفلاسفة، حيث يأخذ معاني متمايزة في عمقها ومقاصدها. ولقد أدرك ذلك واحدٌ من أهم رواد الدراسات الفلسفية العرب وهو الدكتور فؤاد زكريا الذي فضّل، عند ترجمته لكتاب «عصر الأيديولوجية» للأمريكي هنري أيكن، أن يدع هذا المصطلح يدخل علي اللغة العربية بصورته الأجنبية دون تغيير، حيث ارتأي أن لفظ الأيديولوجية ينطوي على معانٍ معقدة لا يمكن أن يستوعبها لفظٌ عربيٌ واحد. وتأكيداً على إشكالية هذا المصطلح إلى حد التناقض سنكتفي بمثلٍ وحيد وهو أن ماركس، الذي كانت ماركسيته سبب ذيوع مصطلح الأيديولوجية، كان يري أن مذهبه هو تجاوزٌ للأيديولوجية في حين أن مفكراً ماركسياً بارزاً مثل جورج بوليتزر يعترف بأن المذهب الماركسي ذاته له أيديولوجيته الخاصة.
وهكذا لا مناص من قبول هذا المصطلح بصورته الإشكالية ومحاولة التعاطي معه بحسب السياقات التي يرد من خلالها. ويكفي أن نشير إلى أنه في سياق هذا الحديث فإننا نعني بالأيديولوجيا هنا الفكرة أو التوجه أو المبدأ القائد أو مزيج العوامل الفكرية والشعورية والاجتماعية التي قد تعبّر عن مشاعر دينية أو قومية أو لا دينية (بمعني نقيض الدين)، بحيث تقود أمماً أو مجتمعات في حركات جماعية قوية لتحقيق أهداف وطموحات متجاوزة.
لقد كانت الأيديولوجيا محركاً أساسياً لحركات عديدة على مدى التاريخ، فقد قامت إمبراطوريات قومية ودينية مستخدمة أقصى درجات الشحن الأيديولوجي وجاست جيوش الأيديولوجيا كل أطراف الكرة الأرضية بصورة متكررة وبصيغ الجملة والتجزئة وبمختلف الشعارات والرؤى. إلا أن كل الحضارات والمنجزات الإنسانية الكبري كانت دائماً حصيلة مراحل الاستقرار والسياسات غير الأيديولوجية وذلك بعد انحسار موجات العصف الأيديولوجي وتوقف تأثيرها.
وربما عاش القرن العشرون آخر مراحل الموجات الأيديولوجية على اختلاف أنواعها، ولعل أقوى وأعنف موجتين ازدهرتا خلاله كانتا الثورة الشيوعية العقائدية الكبري والحركة النازية القومية في ألمانيا مروراً بالحركة الناصرية العربية والحركة الصهيونية وحركات أخري تابعة أو مستقلة هنا أو هناك. ويمكن اعتبار الحركة الخمينية هي آخر الأيديولوجيات الحادة التي اختتم بها القرن العشرون عصر الأيديولوجية.
وجدير بالملاحظة أن جميع الأيديولوجيات انتهت وتآكلت في ذات القرن، حيث أُجهضت النازية ومثيلاتها في آسيا وأوروبا قبل منتصف القرن، وتوارت الناصرية ورديفتها البعثية أواخر القرن، كما ترهلت الشيوعية ومرضت ثم خرجت من الميدان عملياً قبل نهاية القرن، وأصبحت ورموزها من ذكريات الماضي والتراث الدارس. ولم يبق يعاند الزمن سوى اثنتين هما الخمينية المذهبية التي تنطوي في عمقها علي قومية كامنة والصهيونية الدولية التي تتركب من توليفةٍ دينية قومية شديدة الانغلاق. وإذا كانت الأولى تسابق الزمن لتحقيق توسعها وترسيخ نفوذها قبل خفوت صهيلها الأيديولوجي، فإن الثانية تواصل لعبتها التاريخية بركوب أحصنةٍ واعتمار أقنعةٍ لا تستهلك زخمها الأيديولوجي ولا تكشف عن وجهها الحقيقي.
ويمكن القول بوضوح إن جميع الأيديولوجيات الأخرى إن لم تكن خاملة فهي، علي الأقل، غير فاعلة. نعم إن الأديان السماوية والوضعية والتراث القومي لجميع الشعوب، ستظل كلها منابع للقيم والأخلاق ومراجع للتشريع بدرجات متفاوتة، وسيظل كل ذلك مصدراً للإلهام عبر الزمن. إلا أن الجذوة الأيديولوجية لم تعد فاعلة ولا محفّزة ولا قائدة، في الوقت الحاضر على الأقل.
لقد أصبحت شروط التقدم وآليات التغيير خارج حمّي الأيديولوجيا، وباتت أممٌ كثيرة في عداد المتفوّقين حضارياً والمؤثّرين سياسياً عبر نهجٍ مدني يعتمد الخطط والبرامج والسياسات. هكذا نهضت وتقدمت اليابان والنمور الآسيوية في النصف الأخير من القرن العشرين، وهكذا تفوقت ألمانيا ودول أوروبية أخرى بعد الحرب العالمية الثانية، كما هكذا أصبحت الصين بعد انحسار موجتها الأيديولوجية، وربما القطيعة غير المعلنة معها، لتصبح ثاني اقتصاد في العالم والمؤهلة للصدارة عمّا قريب. لقد دخلت العصر من باب آخر غير الأيديولوجيا ويبدو أنها قد وجدت الطريق الصحيح لامتلاك قوة التأثير الحقيقية المستديمة التي عجزت عن بلوغها زمن لُهاثها الأيديولوجي.
أما عن الأيديولوجيا في الحالة الإسلامية والعربية فحديثٌ آخر.
- عبدالرحمن الصالح