د. عبدالحق عزوزي
إن السمات الأربع للبنية الاستراتيجية الحديثة: التقلب، والتوجس، والتعقيد، والغموض، تدفع الرؤساء في عديد من الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا إلى تبني آليات متعددة لاتخاذ القرار. ويلعب المستشارون دوراً كبيراً في هذا المجال. فإذا بقينا في مثال الولايات المتحدة الأمريكية، وفي سياستها الخارجية، نتذكر البون الشاسع في التفكير والتنظيم بين كولن باول وزير الخارجية في عهد بوش الابن، ووزير الدفاع رامسفيلد. ونعلم هنا أن وزارة الخارجية والدفاع الأمريكيتين مرتبطتان بالقوة العسكرية، فالتفوق والقوة العسكرية، يعطيان الهبَّة اللازمة للدبلوماسية الأمريكية، وهذه الأخيرة تحاور القوة العسكرية، لتخرج بنجاح سياسي؛ فكولن باول كان يرفض التدخل العسكري دون شرعية أممية، إلا أن الكلمة الأخيرة كانت لرامسفيلد، ولحد الساعة ما زالت تثار في كواليس الأجهزة الدبلوماسية والعسكرية الأمريكية، مسألة تحديد المسؤول المخطئ في الفشل الحالي في إرساء الاستقرار في عدة مناطق كالعراق.
إن كل متتبع للسياسة الخارجية والداخلية الأمريكية، يخرج بنتيجة ذات مغزى كبير، هي أنه عندما يتكئ الرئيس الأمريكي على زمرة من المستشارين الموثوق بهم فقط، فإن ذلك يكون مطية لنشوء ظاهرة التفكير الجماعي الأحادي، والمشكلة هنا أن ثقة الرئيس اللا متناهية بهؤلاء المستشارين، غالباً ما تكون نتيجة للتشابه والتناغم في العقليات بين أفراد المجموعة، وأعني بذلك الأيديولوجيا السياسية، والنظرة إلى النظام الداخلي وإلى العالم، والنتيجة النهائية هي أن الرئيس غالباً ما يسمع ما يعرفه مسبقاً، ويعيه جيداً، ويؤمن به أشد الإيمان، فتحصر بذلك صناعة القرار مركزياً في قمة هرم الدولة. فتبقى المعرفة الحقيقية عند المستويات الدنيا من النظام الهيكلي للدولة، أو عند أناس لهم باع في الفهم، والتفكير، والتخطيط، والتنظير، هم أولى بالاستشارة من المستشارين الحاليين.
ثم إن هؤلاء المستشارين في السياسات الخارجية غالباً ما تجدهم في الأصل أساتذة جامعيين متخصصين في العلاقات الدولية وذوي توجه معين، وإذا سألتهم مثلاً عن تشخيص حقيقي لطبيعة النظام في إيران وعن المؤسسات الدستورية النافذة ستجد منهم أجوبة غير مقنعة... وإذا سألتهم عن أسباب وجود إنسهم وجنهم في اليمن والعراق وسوريا ولبنان فسيخوضون معك في تفسيرات جيوسياسية عقيمة... وإذا تفضلت وقلت لهم بأن التقية عندهم تسمح لهم بفعل كل شيء وأن مسألة السيادة الممنوحة من القانون الدولي لكل دولة منعدمة في إيديولوجيتهم ابتسموا لك وغيروا الموضوع.
يا سادة إن النظام في إيران قائم على الشخصنة السلطوية -في ظل غيبة الإمام المنتظر الذي طال مجيئه ولا يعرف أحد متى يأتي -وأعني بذلك ولي الفقيه الذي يعلي ولا يعلى عليه، والذي وصفته المادة 107 من الدستور الإيراني بأنه «المرجع المعظم والقائد الكبير للثورة الإسلامية العالمية، ومؤسس جمهورية إيران الإسلامية، سماحة آية الله العظمى الإمام الخميني (قدس سره الشريف) الذي اعترفت الأكثرية الساحقة من الناس بمرجعيته وقيادته» فالسلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية تمارس صلاحياتها بإشراف ولي الأمر المطلق وإمام الأئمة (المادة 57)... فمهمته مهمة مركزية في نظام الحكم الإيراني، وهو المتفرد بالمرجعية الدينية لكل الشيعة في العالم، دون اكتراث للحدود الجغرافية أو السيادة الوطنية. ولحماية هذا النوع من الوجود السلطوي في دواليب الدولة، فإن للقائد ممثلين يعينهم يبلغ عددهم نحو ألفي ممثل في كل مؤسسات الدولة وأجهزتها وفي الوزارات والسفارات والمراكز الثقافية، كي تتمكن أسس الثورة من البقاء انطلاقاً من «ممثلي الإمام». وهاته السلطات والصلاحيات أتاحت للقائد بإنشاء «دولة داخل دولة» وما يعنيه ذلك من سريان نظام وقواعد غير مكتوبة وأخرى مكتوبة تكون فوق القانون والصلاحيات المشروعة المتعارف عليها، وبلباس ديني ثوري مطلق.
ويا سادة إن النظام قائم على مؤسسات دستورية نافذة موضوعة مباشرة تحت سلطة الولي الفقيه... فالمشكلة عندنا أننا لا نقوم نحن المفكرين والجامعيين بتوصيل المعلومات والأفكار اللازمة لهؤلاء في جامعاتهم ومعاهدهم التي يزاولون فيها وهي في الحقيقة الشركات التي تخلق فيها السياسات العمومية الأولى.
فإذا أفهمنا زملاءنا في الدول الغربية من خلال هاته الإطلالة السريعة نوعية النظام القائم في إيران عن طريق مقالات علمية وكتب معتمدة، سيفهمون كل شيء. وسيفهمون أن لعب إيران على الوتر الطائفي مسألة وجود إيديولوجي لإيديولوجية ولاية الفقيه؛ وسيفهمون أن تصدير مشروع الثورة الإيرانية لن تكون إلا من خلال استعمال أدوات مذهبية باستغلال وتجييش طائفي لبعض الشيعة العرب وغيرهم في المنطقة العربية لنشر مبادئ ومرتكزات الثورة، كل ذلك لتعزيز المصالح القومية الإيرانية، والتمركز داخل النظام الإقليمي وابتزاز الخصوم والأنداد؛ وآنذاك نكون قد أسهمنا بجلاء في عملية التأثير الإيجابية كما تمارس علينا نحن من خلال الرؤى والأفكار العلمية التي تصلنا إلى جامعاتنا من جهتهم...