لا ينفك الرجل غالباً من صديق يُودُّه أو صاحب يحبُّه.. وقد أكرمني الله ببعض الأصدقاء، رأيتُ محبتهم, ولمستُ مودتهم, فكانت مجالستي لهم, وجلوسي إليهم من لذات الحياة, ومسراتها. ولطالما حدثني الواحد منهم عن مواقف حدثت له، بعضها فرح وأُنس, وبعضها مرٌّ وكَبَد, وثالثة طريفة ظريفة. وقد بدا لي أن أجعل بعضها في مقال مما علق في الذهن, وجاء به الخاطر. وقد حداني الاجتماع بجملة منهم في عيد الفطر لتذكرها، مع أن أبا الوفاء ابن عقيل - رحمه الله - ابتُلي في جملة من أصدقائه حتى كتب كلاماً كثيراً حول الصداقة, وزعم أن الصداقة الصافية قد نسخت!! وكان مما قاله وكتبه: (وجمهور الناس اليوم معارف, ويندر منهم صديق في الظاهر, وأما الأخوة والمصافاة فذلك شيء نسخ!! فلا تطمع فيه, وما أرى الإنسان يصفو له أخوه من النسب, ولا ولده, ولا زوجته فدع الطمع في الصفاء!! وخذ عن الكل جانباً وعاملهم معاملة الغرباء, وإياك أن تخدع بمن يظهر لك الود, فإنه مع الزمان يبين لك الخلل فيما أظهره!!).
وليعلم أصحابي الكرام الميامين أني أفرح جداً بهم, وأسعد بحديثهم, ألا أدام الله صحبتهم على خير.
في موقفٍ اشتمل على براءة نفس وعفوية قال أحد أصحابي اللطفاء - وهو من أحبهم إلي - لمن معه في الطائرة حين أتى المضيف بالصحف ليوزعها على الركاب: والله ما يحاسب أحدٌ إلا أنا!! ووضع يده على محفظة نقوده ليدفع للمضيف قيمة الصحيفة التي سيأخذها أصحابه! والمضيف ينظر نظر عطف على صاحبي حتى كاد أن يضمه إلى صدره من براءة لفظه, وصدق كرمه, وقد ضحك من بجوار صاحبي من تصرفه, ولا يلام إذ كانت المرة الأولى التي يصعد فيها إلى الطائرة. ألا فكن يا صاحبي كما أنت.
نسيتُ من يده أن أستردَّ يدي
طال السلام وطالت رفَّةُ الهُدُب
وآخر من أصدقائي الكرماء ذهب إلى دولة آسيوية وهو لا يجيد اللغة الإنجليزية وقد ضبط عبارتين فقط الأولى: (discount) والأخرى :( I don›t speak English) نزل في مطار تلك الدولة فلما مشى مع الناس حتى وصل إلى مكان الجوازات أخذ الجواز الموظف وسأله: إلى أين وجهتك؟ أي فندق ستنزل؟ باللغة الإنجليزية فأجاب صاحبي بالعبارة الأولى!! فجحظت عينا الموظف وأعاد عليه السؤال مرة أخرى, فأجاب صاحبي بالعبارة الأولى ورفع صوته بها, فكأن الموظف تضايق قائلاً: كيف تريد أن أخفض لك!! ففطن صاحبي أنه استعمل العبارة الأولى وأن مقصوده العبارة الثانية فنطق بها, وهزَّ رأسه الموظف!
وأحد أصحابي يقص عليَّ أن صاحباً دخل على صاحبه في مكتبته فدار فيها وهو لا علاقة له بالكتب, فالتفت إلى صاحبه وقال له: وش ذا «المُغَنِّي» على مختصر الخرقي!! فما ملك صاحبه نفسه من الضحك, ثم أخبره أن هذا كتاب فقهي سماه مؤلفه «المُغْنِي» لا «المُغَنِّي».
وأحد أصحابي في قاعة الدرس قال لأحد الطلاب اقرأ، وكان درسه معهم في الفقه، فقال الطالب: قال المؤلف - رحمه الله - في كتابه الروض المُرَبَّع!! فأوقفه صاحبنا - وكان الطالب في المرحلة الجامعية - وقال له: لا, بل المستطيل إذ الكتاب أضلاعه غير متساوية!!
وأحد الأصحاب حدثني أنه كان في الحج، وفي اليوم الثاني عشر كان متعجلاً؛ فذهب لرمي الجمار، وكان هذا قبل سنين حين كان الناس يدخلون بحقائبهم إلى جهة الجمار, وإذا برجل من مصر يجر حقيبته إذ ضربتْ رِجْل صاحبٍ لصاحبي فالتفت على الأخ المصري وقال له: يا أخي حط حقيبتك ولا تأتي بها إلى هنا, فقال الأخ المصري: (فين أحطها)؟ فغضب الرجل فقال: في الشيطان أو عند الشيطان!! فقال المصري وقد علته الابتسامة: (أهو! الشيطان أمامنا رايحين له), يقصد رمي الجمار, على ظن بعض الجهال أن رميه للجمار هو رمي للشيطان.
وأذكر أن أحد أصحابي ذهب للعمرة مع صاحب له فحدثني عنه، وربما كانت تلك أول عمرة يقوم بها. وصلوا مكة مع غروب الشمس. المراد أنهم دخلوا الحرم ليصلوا العشاء، ثم يبدؤوا عمرتهم بعدها. وكان مما قرأ إمام الحرم قوله تعالى : {... ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} فعلقت بذهن صاحبنا, فبدأ طوافه ويدعو فيه، ثم ذكر جزءاً من الآية الماضية فصار يقول: اللهم خفف عنا يوماً من العذاب!!! فنهره الذي بجواره وقال له: أوقد دخلت جهنم حتى تطلب تخفيف عذابها؟!!
وأختم بأن أحد أصحابي - وهو رجل حيي - كان في السوق مع والدته، فوقف أمام بضاعة ينظر إليها, ثم ذهب ومشى بجوار امرأة لم يخالطه شك أنها والدته, واستمر المشي حتى أبدت تلك المرأة تضايقها منه, ففطن أنه قد أخطأ؛ فبلغ الخجل منه الغاية؛ فعاد يبحث عن أمه. ألا رحم الله أمهاتنا، وأحسن إليهن.
والمواقف تجر المواقف، ومن أشرت إليه من أصحابي قد جاوزت صحبتي لهم ما يقارب خمس عشرة سنة, ولا يظن أحدٌ أن الصديق لا يصدر منه ما يكدر الصفو في صحبته، بل لا بد من ذلك, وكما قال بشار بن برد:
أَخُوكَ الذي إْن تَدْعُهُ في مُلِمَّةٍ
يُجِبْكَ، وإنْ عاتَبْتَهُ لانَ جانِبُهْ
إذا كنتَ في كلِّ الأمور مُعاتباً
صَدِيقَكَ لم تَلْقَ الذي لا تُعاتِبُهْ
فَعِشْ واحداً أو صِلْ أخاكَ فَإِنّهُ
مُقَارِفُ ذنبٍ مَرّةً ومُجانِبُهْ
إذا أنتَ لم تشرَبْ مِرَاراً على القَذَى
ظَمِئْتَ وأيُّ الناس تَصْفُو مَشَارِبُهْ
وقد قال ابن مفلح -رحمه الله-: «قال ثعلب: العرب تقول: صبرك على أذى من تعرفه خير لك من استحداث من لا تعرفه. وكان شيخنا -يعني ابن تيمية- يقول هذا المعنى». وذكر الجاحظ في رسائله ما نصه: «فلا تكونن لشيءٍ مما في يدك أشد ضناً، ولا عليه أشد حدباً، منك بالأخ الذي قد بلوته في السراء والضراء، فعرفت مذاهبه وخبرت شيمه، وصح لك غيبه، وسلمت لك ناحيته؛ فإنما هو شقيق روحك وباب الروح إلى حياتك، ومستمد رأيك وتوأم عقلك.
ولست منتفعاً بعيشٍ مع الوحدة. ولا بد من المؤانسة، وكثرة الاستبدال تهجم بصاحبه على المكروه. فإذا صفا لك أخٌ فكن به أشد ضناً منك بنفائس أموالك، ثم لا يزهدنك فيه أن ترى منه خلقاً أو خلقين تكرههما؛ فإن نفسك التي هي أخص النفوس بك لا تعطيك المقادة في كل ما تريد، فكيف بنفس غيرك! وبحسبك أن يكون لك من أخيك أكثره، وقد قالت الحكماء: (من لك بأخيك كله)، و(أي الرجال المهذب)». فلا استقامة لصداقة إلا بالصبر, وقد قال عمر رضي الله عنه: «وجدنا طيب عيشنا بالصبر».
وقد قال المتنبي: «شر البلاد بلاد لا صديق بها».
وفراق الصديق مما يكدر الروح، ويأتي بالوحشة في الفؤاد, خاصة إذا ارتفعت منزلته عندك, وعلت مكانته في نفسك, حتى أن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل - رحمه الله - لما قيل له: لِمَ لا تصحب الناس؟ قال: لوحشة الفراق!
نُوَبُ الزمان كثيرةٌ وأشدُّها
شَملٌ تحكَّمَ فيهِ يوْمُ فراق
فإلى أصدقائي جميعاً أكتب: عيدكم مبارك، وتقبل الله مني ومنكم, وجعلكم الله ذخراً, فأنتم من نعم الله التي أنعم بها عليّ, وأحمد الله على جميع نعمه, وأشكره عليها, وأنتم كما قال ذاك - ولو خالفتُ أبا الوفاء رحمه الله -:
بيض الوجوه كريمة أحسابهم
شم الأنوف من الطراز الأولِ
** **
- عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء