ياسر صالح البهيجان
بعد أن وضعت الحرب العالميّة الثانية أوزارها، لم يعد الخيار العسكري بين القوى الإقليميّة أو الدولية متاحًا، ما أوجد أرضيّة خصبة لتنامي المنظمات غير الحكوميّة والعابرة في انتماءاتها للأوطان، لتمثّل اللاعب الرئيس في الصراعات بين الدول، وتزايدت حالات استقطاب الجماعات غير المبالية بمصير وطنها، لتتحوّل إلى كيانات تجدّف عكس المصالح الوطنيّة، وتعمل وفق أجندة خارجيّة توفّر لها التمويل والتخطيط اللازمين لخلخلة المجتمعات وتهيئة الظروف الملائمة للانهيار من الداخل، بدلاً من المواجهة الخارجيّة ذات الكلفة المادية والبشرية الباهظة.
وشكّلت الأحزاب ذات الانتماءات العابرة للأوطان في منطقة الشرق الأوسط، محورًا هامًا وفاعلاً لدى الدول ذات الرغبة التوسعيّة، وفي مقدمتها إيران، وأخذت تؤسس الميليشيات الطائفيّة وتستقطب الكيانات السنيّة الحزبية لتحقيق اختراقات في بنية المجتمعات العربيّة، وإيجاد حالة من التذمّر الشعبي تجاه سياسات الحكومات في المنطقة، إذ إن الأفراد المنتمين لتلك الجماعات على استعداد للتحالف ضد أوطانهم لتحقيق مصالح حزبيّة، ما يجعلهم هدفًا استراتيجيًا سهل المنال للقوى المعادية، ويمكن الاستفادة من هويّاتهم الوطنيّة لزعزعة استقرار الدول، وجعلهم إحدى وسائل التقويض الداخليّة التي تؤسس لانقسامات مجتمعيّة تؤدّي إلى الفوضى والاقتتال، بينما يقف العدو الخارجي موقف المتفرّج.
الأيديولوجيا العابرة للأوطان تحوّلت من الفكر العروبي إلى الفكر الإسلامي المتطرّف، وهذا التحوّل كان استجابة لظرف ثقافي نشأ داخل المجتمعات العربية، فمنذ النكسة لم يعد للفكر القومي تأثيره الفاعل لدى الأفراد، ما جعل الحشود توّاقة لفكرة أكثر عمقًا، ومنها اتجهت الجماعات إلى تلبية تلك الرغبة الوجدانيّة بطرح مشروع بديل، وهذا ما يفسّر عدم وجود منظمات إسلامية راديكالية إبّان حقبة المد العروبي، أي أننا أمام حالة استقطاب شعبوي بغضّ النظر عن ماهيّة الأفكار التي يفرضها الظرف الراهن، وكلّما ازداد أتباع الجماعة ازدادت قوّتها على الأرض، وتضاعفت قدراتها على فرض رؤيتها أو رؤية أجندات الداعمين لها من خارج الوطن.
معظم الحكومات العربية كشفت قواعد اللعبة السياسيّة الجديدة في المنطقة، وهذا ما يفسّر اتجاهها العلني لتجريم عديد من الجماعات الإسلاميّة المتطرّفة والمنظمات الطائفية ذات الانتماءات العابرة للأوطان، إضافة إلى تجريمها للشخصيّات الداعمة للإرهاب والمقوّضة لاستقرار المجتمعات، وهي بهذه الخطوة البارزة ستُفشل المشاريع التوسعيّة، بدعم من شعوبها التي ازداد وعيها بخطورة تلك التنظيمات التي تحمل ولاءات خارجيّة وأهدافاً حزبية دون أن تكترث بمصير أوطانها، ونحن إذن أمام حقبة تاريخيّة جديدة لا صوت يعلوها فيها على صوت الوطن.