محمد جمعة عبدالهادي موسى
تأخذ الأفلام السينمائية القديمة موضعًا حسنًا إلى حد كبير من حيث كونها مصدرًا وثائقيًا للتراث العمراني والمعالم الجغرافية على وجه العموم، في ضوء المواد التي تعرضت لها خلال التسجيل والتصوير داخل مصالح حكومية، وجامعات ومكتبات، خلال فترة ثلاثينيات وخمسينيات وستينيات القرن المنصرم. فضلا عن الشوارع والميادين والعمائر والمساجد والطرق وغيرها من أروقة المحاكم ومقراتها مما هو مسجل بالصوت والصورة داخل الأرشيف التلفزيوني الذي سبق وتحدثنا عنه كمخزون وثائقي نادر وكبير.
ويزداد الأمر قيمة عند صناع الأفلام الوثائقية الذين يبحثون عن مشاهد حية للعناصر المذكورة في فترة زمنية معينة، كأن يريد الحصول على مشاهد حية للقاهرة في عام 1950م، فهنا يمكنه الاستقاء من الفيلم السينمائي الذي سجل مشاهد حية خلال هذه الفترة، وهكذا، فالفيلم السينمائي له قيمة أخرى في غاية الأهمية من الناحية التوثيقية؛ يحتاج إليها الكثيرون من المشتغلين بصناعة الصوت والصورة.
ومن القيمة المضافة للفيلم السينمائي القديم أنه يسجل إلى -جانب المعالم الجغرافية- الحياة اليومية ومظاهرها ويتبين ذلك في المشاهد الخارجية التي تسجل فيها لقطات الفيلم في شوارع، وفي الأسواق في النوادي وغيرها.
وليس الحديث هنا عن الفيلم السينمائي بقيمته وأهميته الموضوعية فهذا أمر ليس في متناولنا، بينما المقصد هو اكتشاف قيمته من الناحيتين التاريخية والجغرافية العمرانية، فالفيلم السينمائي يتضمن الزمان والمكان، وهو ما يُعنى به التاريخ، وهنا نقف عليه من حيث القيمة التاريخية والجغرافية، ونحاول بقدر الإمكان اكتشاف أهميته من هذه الناحية والمثال يزيد الأمر وضوحًا.
إنه قد تتغير الصورة بمرور الزمن تغيرًا واضحًا يتبين أمام المشاهد بدقة ما كان في القديم وتغير في الحديث بالإضافة أو بالحذف، ونقصد بذلك تلك المواضع العمرانية التي تم إتمام تشييد بنائها أو تخليتها أو تعرضها لعوامل الهدم أو الاستزادة على مبانيها وخاصة تلك المباني التراثية القديمة؛ ولذلك دور مهم في متابعة تغير الصورة في الجغرافية العمرانية من ذلك -على سبيل المثال- الميادين والجامعات، والطرق، وفي ذلك فوائد عديدة قد يشملها زيادة عدد السكان أو التكدس أو حيوية المكان وأهميته التي تم اكتشافها من جديد.
والنماذج على ذلك عديدة ومتشعبة فمواد الأفلام السينمائية التي تم إنتاجها خلال عام 1963م-على سبيل المثال- تبرز التطور الذي لحق بالعمران والتوسعات الذي شملته من ذلك كنموذج: «فيلم الباب المفتوح» الذي تم إنتاجه عام 1963م وصدر في أكتوبر من العام نفسه، وحصل على جائزة أحسن فيلم من مهرجان جاكارتا السينمائي؛ يستدعي -بداية من خلال السياق الدرامي- مشاهد وثائقية ذات قيمة عالية وذلك في أول ما يعرضه عن الحريق الذي لحق بالعديد من المباني والمحلات في عام 1952م فيما سُمي بحريق القاهرة، (26 يناير، 1952م) «الدقيقة: 42:28». كما يعرض لشوارع القاهرة قديمًا، وحركة الترام أمام العمائر القليلة في «شارع رمسيس حاليًا» في «الدقيقة: 42: 50».
ثم ينتقل الفيلم إلى تناول مشاهد حية لمقر هيئة قناة السويس عام 1963م، وحركة السفن والبواخر في الميناء والمباني المحيطة به. «الدقيقة: 55: 09».
ومن الجوانب الأكثر وضوحًا للتراث العمراني بالفيلم: جامعة القاهرة؛ فالذي ينظر إلى مساحة جامعة القاهرة ومبانيها في فيلم «الباب المفتوح»، يلحظ مُشاهديه بشكل كبير مدى التغير الذي لحق بجغرافية جامعة القاهرة، ومبانيها.
فيعرض الفيلم المبنى الرئيسي لجامعة القاهرة، وبرج الساعة فيها. «الدقيقة: 01: 02: 04»، ثم يتناول مشاهد لكلية الآداب من الخارج قبل أن تقام حولها الحدائق الحالية ثم يعرضها من الداخل حيث المدرجات التي يحضر فيها الطلبة، وتنطلق الكاميرا في أروقة الكلية في المبنى الرئيسي الذي يجلس فيه عميد الكلية قبل تجديداته الحالية.
وفي «الدقيقة: 01:07:56» يعرض الفيلم جلوس الطلبة في موضع كافتيرا قام مقامها الآن ملحق الجديد بكلية الآداب فضلا عن الملحق الجديد الذي يشمل الآن قسم الجغرافيا واللغات الشرقية، ومركز اللغات والترجمة، والأرشيف. كما عرض مقتطفات من مكتبة كلية الآداب جامعة القاهرة، من الداخل في شكلها القديم قبل تجديدها الآن.
كما يتعرض لمشاهد حية من مطار القاهرة الجوي، والذي كان يسمى بميناء القاهرة الجوي في «الدقيقة: 01:30:40». ويظهر مقر المبنى القديم للمطار قبل تجديده في شكله الحديث اليوم، ثم يعرض الفيلم لقطات حية لمحطة قطار بورسعيد القديمة، قبل تجديدها في شكلها الحالي اليوم «الدقيقة: 01:37:59». ويشرف على تناول الغرف التي كانت تجلس فيها السيدات في معزل عن الرجال في استراحة الانتظار بمحطة قطار بورسعيد.
وخلال تلك الفترة خرج فيلم آخر وهو فيلم «البحث عن فضيحة» وهو فيلم مقتبسة فكرته من الفيلم الأميركي دليل الرجل المتزوج «A Guide for the Married Man» من إنتاج عام (1967م)، والفيلم يقدم سياحة جغرافية رائعة يعرض لنا فيها مشاهد حية لأحد الميادين الهامة في القاهرة الكبرى وهو «ميدان التحرير» قبل العاصمة المصرية القاهرة عام (1967م)، والتغير الذي لحق بالعمران في هذه المنطقة؛ حيث يعرض الفيلم هذا الميدان قبل تشييد العديد من المباني حوله «الدقيقة: 3». كما يعرض مشاهد حية لكورنيش النيل القديم.
لعل هذه المشاهد جميعها تعد توثيقًا حيًا للعمران في فترة زمنية بعينها كما هو واضح في النماذج الذي تناولناها أي صورة العمران المذكور قبل أكثر خمسين عامًا.
والذي يتتبع قائمة الأفلام السينمائية المصرية بالمشاهدة خلال السنوات من المؤكد أنه سيخرج بالكثير من الصور النادرة عن العمران والجغرافية والتطور الذي لحق بالعديد من المواضع.
ولعل أيضًا تكون هذه المقالة بطاقة استرشادية لموضوع بحثي ببليوجرافي يقدم أرشفة نموذجية تاريخية للعمران في ضوء الأعمال السينمائية القديمة والنماذج كثيرة ومتعددة، تقدم المحتوى التلفزيوني التاريخي الذي يبحث عنه الكثير في ضوء الفيلم الدرامي الذي يشهد تناول الكثير من التراث العمراني على اختلاف بعده الزمني.