عبدالعزيز السماري
سأتناول الأيديولوجيا وسأحاول تجاوز المصطلح الذي وضعه تنويري فرنسي يُدعى دي تراسي، وسأنزله إلى مواقعه العربية، فهو باختصار علم الأفكار النظرية التي نؤمن بها وتتشكل مواقفنا من خلالها، وذلك من أجل تبسيط المصطلح الذي أصبح الشغل الشاغل للناس، إذ من السهولة أن تسمع تهمة عابرة بأنك مؤدلج، ثم يكون صداها سلبياً عند الآخرين.
سأورد أمثلة شهيرة علي ذلك، مثل الإيمان بالخلافة الإسلامية المنتظرة، أو بنزول إما المهدي أو عودته عند طوائف أخرى، وقد كان التعليم الديني ولازال يقوم على فكرة الإيمان بعودة المصلح في آخر الزمان «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم، لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً».. صححه الألباني، ويعني ذلك تحوله إلى عقيدة متواترة بين الدعاة والعوام في هذا العصر.
تشترك مختلف الأديان والطوائف في عودة المصلح في آخر الزمان، ويستخدم المؤمنون بهذه الأفكار انتشار الظلم والجور لنشر فكرة عودة المصلح أو المهدي المنتظر، وقد قامت على هذه الفكرة جماعات دينية معتدلة ومتطرفة، هدفها استغلال هذه الأفكار من أجل إضفاء مصداقية للطرح السياسي.
كذلك لم يكن ذلك حصراً على العقل المسلم، فقد تغزو هذه الأفكار العقول في مختلف الحضارات، ولعل أشهر مثال على جعل الفكرة النظرية عاملاً رئيساً لحدوث الكوارث، ما دار بين الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن والرئيس الفرنسي جاك شيراك.
فقد أصدرت دار نشر فرنسية كتاباً عن حرب العراق تحت عنوان «لو كررت ذلك على مسامعي فلن أصدقه»، حيث لم يصدق شيراك أذنه عندما اتصل به بوش قبل الحرب على العراق لإقناعه بالتراجع عن معارضته الشرسة للحرب، مؤكداً له أن هذه الحرب تستهدف القضاء على يأجوج ومأجوج اللذين يعملان على تشكيل جيش إسلامي من المتطرفين في الشرق الأوسط لتدمير إسرائيل والغرب الذي يساندها، معتبراً أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 التي استهدفت نيويورك وواشنطن هي بداية لهذه الحرب المدمرة.
كذلك كان لقيام دولة إسرائيل والالتزام بأمنها الأبدي مرجعية مؤدلجة بأفكار نظرية، ولها علاقة مباشرة بما يُطلق عليه بالصهيونية المسيحية، وهي ظاهرة دينية شائعة في أجزاء مختلفة من العالم المسيحي، وتقوم على إيمان المسيحيين الإنجيليين المطلق بأنّ هجرة اليهود لإسرائيل وإقامة الدولة اليهودية هي جزء ضروري من عملية الخلاص المسيحية.
في قياس للجملة المشهورة «لا يوجد نص بريء»، فإنها كذلك السياسة تخلو من المواقف البريئة، لكن التساؤل هو عن كيفية الحد من سطوة الأفكار الدينية المسيسة على العقول بدون ضرورة المواجهة المباشرة، والتي قد تحول مسار الأفكار إلى الأنفاق السرية، وهو ما يجعلها أكثر فتكاً وتدميراً للسلم الاجتماعي.
الحل يكون في تجاوز الصراع المباشر مع العقول والأفكار بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهو ما يعني إنتاج أجيال تحترم ثقافة العمل أكثر من قابلية الاستعباد للأفكار النظرية، وتعبر عن أفكارها بدون خوف من أي سلطة في المجتمع، وتعمل من أجل وطنها خوفاً على مكتسباتها ومصالحها، وليس خوفاً على مصيرها، والله ولي التوفيق.