سام الغُباري
يُحكى أن بائع شاي كان يتدخل في كل شيء، يُبدي رأيه علنًا أمام رواد مقهاه في الفلسفة والفيزياء والعلوم العسكرية، ينتقد أداء حكومات العالم وطرائق التعامل مع الإرهاب، وكيف كان لتلك الدولة أن تفعل شيئًا أفضل حِكمة مما فعلته! وفي بوحه المرتفع أعتقد «بائع الشاي» أن الكرة الأرضية تزدحم بالأغبياء الذين لا يُحسِنون أعمالهم، وقد كان اعتقاده مؤلمًا لضميره وقلبه وعقله. في خضم ذلك لم يكن «البائع» مستعدًا لإدرك حقيقة جوهرية أنه لا يحسن صناعة الشاي!
بائعو الشاي في اليمن كثيرون، كثيرون جدًا، يُخزّنون ويتحدثون عن كل شاردة في السماء، وفي المساء يدخلون إلى مواقع التواصل الاجتماعي لصناعة رأي يضطجع معهم على حصيرهم الممزق جوعًا وبؤسًا وكوليرا، حتى إنهم مستعدون بشهية مفتوحة لمناقشة الأزمة المالية في «قبرص»، وانتقاد الرئيس «السيسي» بوضوح متعصب، وكأنهم بقايا «أقباط» أسلم أجدادهم قسرًا ورحلوا إلى اليمن! تلك النوازع الشريرة تلوم العالم كله، ولا يلومون أنفسهم!
- اليمنيون عاطفيون تسوقهم العبارات، وتذكيهم الجمل الرنانة، تستهويهم أساطير الصمود، وتبكيهم مناظر الموت حتى ألفوها. أبدأ بي، حيث يملكني التناقض بين مقال وآخر، أصوغ تبريرات لأقنع نفسي بجدلية الصراع وأؤسس في داخلي مبادئ «تشيعية» لفكرة عذبة أعاند فيها حتى ألقى منها خطيئة، فأنتكص على عقبيّ وأهدر فرصتي في الوئام حتى أبدو منفلتًا كعقال بعير ضل صاحبه، تنقصني الحكمة ويعوزني الرشد، يفجعني الفقر والتشرّد وتثقلني الهموم والذنوب، أخشى على عائلتي من المستقبل، ولا أكاد أرى اليمن سعيدًا وفي داخله أولئك المجرمون الحوثيون، لا أؤمن بحلول سلمية معهم، أشعر برغبة عارمة في إذلالهم، ولو كان لي الأمر وامتلكت جيشًا لصيرت فيهم ما يوقف جرائمهم يتوقف عندها التاريخ طويلاً.
- فماذا عنكم؟ أتبيعون الشاي وتنسون تحسين مذاقه! كلنا نفعل ذلك، فنحن يمانيون بعضنا من بعض، كيف لا ونحن نقرأ عن اللصوص باعتبارهم أفراد وجب تقطيع أياديهم بنص القرآن، وفي مسيرة «الحوثيين» يكافئونهم بتوليتهم على رقاب الناس وفي مواقع الجيش والوزارات! ومن حلفائهم متشيعون للرئيس «صالح» يخطبون ود ابنه الصامت دهرًا، ولم يعرفوا يومًا ما برأسه وقد كاد يبلغ الخمسين، فلا كلّم الناس ولا كلّموه، إلا أنه «صنمهم» في صمته وهم حوله يتقربون إليه!
- وفي شارع واحد لا تتجاوز مساحته كيلو مترًا واحدًا من أصل 555 ألف كيلو متر مربع، تفوح منه رائحة البول وتتشابك الخيام يُطل الساحاتيون لخداع أنوفنا برائحة يقولون إنها أضوع من المسك، وأزكى من الطيب يُسمّونها «ثورة فبراير»، ثورة قامت في نحر الجمهورية فأسقطت الوحدة وأهلكت النظام وأفرغت الدولة وأودت بالناس والقادة إلى الصراع والفوضى، وفي كل هذا المشهد المخضب بالدماء يتوسل «الثائر المجيد» من نائب رئيس النظام المثار عليه وظيفة في وزارة حكومية لدى وزير من خاصة «صالح» وأصحابه!
- وفي الكارثة البولية المسماة «11فبراير» كانت مجارير الأحياء القريبة من شارع جامعة صنعاء تنضح بالفضلات وقد انسدّت أنابيبها فأخرجت ما بباطن الأرض وما فوقها لتتوحّد مع الحوثيين لإنتاج ضربة قاضية على الجمهورية، أطلق عليها الحوثيون «ثورة» أيضًا، وقالوا إن أحزاب اللقاء المشترك خدعتهم بالمبادرة الخليجية فعزموا ثورتهم حتى أسقطوا صنعاء بوابل من الزوامل والمكر والخديعة، فضاع ما تبقى من الجيش، وانهارت اليمن.
- في هذه اللحظات يقول «هنري كيسنجر» إن الحرب العالمية الثالثة قادمة وسيتحول المسلمون فيها إلى رماد! سيظل اليمنيون رغم ذلك يجادلون في كل شيء، وأي شيء، عن لون الرماد وطبيعته الفيزيائية وخواصه الكيمائية، ستتباعد أسفارهم كأنها لعنة أبدية. فقد أصبحت صنعاء مدينة مفتوحة.. بلا باب أو رجُل.
وإلى لقاء يتجدد.