د.عبد الرحمن الحبيب
على خلاف علم الاقتصاد الاجتماعي التقليدي فإن علم الاقتصاد السلوكي يقول لنا إن 30% من السلوك الفردي عقلاني والباقي عاطفي «مزاجي». المؤشرات الوطنية مثل البطالة والناتج المحلي الإجمالي تساعد في تحديد الثلث العقلاني، ولكنها قلما تساعد في تقدير الجزء العاطفي، حسب تقرير غالوب.
تحاول بيانات مؤسسة غالوب في تقريرها «العواطف العالمية 2017» سد هذه الفجوة ومساعدة القادة على رؤية الصورة الأوسع، وربما الأكثر أهمية، عبر معرفة كيفية رضا الناس عن سير حياتهم، والعوامل التي تؤثر في مزاجهم من مشاعر إيجابية وسلبية، للحصول على مقاييس من شأنها تسليط الضوء على المزاج العام لسكان البلد، لتعطي صورة أشمل عن السعادة والرفاه في بلدانهم، محددة «ما يجعل الحياة تستحق العيش».
غالوب تقدر ذلك منذ عام 2006 بأسئلة عن المشاعر قبل يوم واحد من الاستبيان.. مثلاً، أبرز ما وضعه التقرير على صدارة نتائجه لعام 2017 هو أن العراق سجل للسنة الخامسة على التوالي أعلى معدل عالمي (58%) للمشاعر السلبية بشكل عام.. أما في تفاصيل المشاعر، فالبلدان الأكثر غضباً كانت مع الإيرانيين (50%) والعراقيين (49%) وسكان جنوب السودان (47%).. في حين أن البلد الأكثر توتراً كانت اليونان (67%)، بينما القلق الأعلى في أفريقيا الوسطى (72%). وإذا كان نحو 70% من الناس كمعدل عالمي قالوا إنهم استمتعوا، وابتسموا أو ضحكوا، وشعروا براحة، وشعروا بمعاملتهم باحترام، فإن نحو 50% فقط قالوا إنهم تعلموا أو فعلوا شيئاً مهماً.
هذا التقرير يُعد أكبر دراسة سلوكية من نوعه، تجريه غالوب عبر دراسات استقصائية لأكثر من 140 بلداً كل عام، مما يوسع مداركنا أبعد من البيانات الاقتصادية التقليدية، كالناتج المحلي والبطالة، باعتبارها تهم مستقبل البلاد. وإذا كانت المنظمات بدأت بتطبيق هذه الرؤية على المستوى الجزئي، فإن الحكومات بطيئة للقيام بذلك على المستوى الكلي.
يقول التقرير، إن الإفراط في الاعتماد على المقاييس التقليدية حول السلوك الرشيد قد يفسر لماذا غاب عن تفكير قادة البلدان والاقتصاديين وعلماء السياسة، الاضطرابات الاجتماعية مثل «الربيع العربي» وقلاقل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي وغيرها. تحاول بيانات غالوب تقدير السلوك العاطفي ومشاعر الناس، من خلال طريقة مختلفة عن التقليدية.. فبدلاً من السؤال، «هل لديك وظيفة؟» نحن نسأل ببساطة: «كيف تسير حياتك؟» حسبما جاء في التقرير؟
بهذه الطريقة تجمع نتائج أسئلة الاستبيان لإنتاج أرقام على المستوى الوطني. هذه النتائج تستخدم كمقاييس على المستوى الكلي للجانب العاطفي والسلوكي للحياة عالمياً وفي كل بلد على حدة. التقرير يضع مؤشراً للمشاعر الشخصية الإيجابية والسلبية من خلال عشرة أسئلة للناس في كل بلد عما حصل قبل يوم من الاستبيان: خمسة عن التجارب الإيجابية: راحة تامة، عوملت باحترام، ابتسام أو ضحك، تعلم أو عمل شيء مهم، استمتاع؛ وخمسة عن التجارب السلبية: ألم جسدي، قلق، حزن، توتر، غضب.
المعدل العالمي للمشاعر الإيجابية تراوح بين 68 و71% منذ عام 2006، وفي هذه السنة كان 70%. على مستوى العالم سجلت براجوي أعلى معدل (84%) واليمن الأقل (51%). في التقرير الذي قبله كانت أيضاً البراجوي الأعلى وكانت سوريا الأقل. وبشكل عام أظهرت دول أمريكا اللاتينية أنها الأعلى بالمشاعر الإيجابية مع الفلبين وأوزباكستان والنرويج. بينما أظهرت دول الاتحاد السوفييتي السابقة وكثير من بلدان الشرق الأوسط معدلات متدنية، فكان الأقل: اليمن، تركيا، العراق، روسيا البيضاء، جورجيا، بنجلاديش، أذربيجان، لتوانيا، أوكرانيا، على التوالي.
من ناحية المشاعر السلبية فأعلى معدل سلبي بعد العراق كان بجنوب السودان (55%) فإيران وليبيريا (52%)، وحصلت أغلب الدول الأفريقية على معدل عال بالمشاعر السلبية. أما أقل بلد في المشاعر السلبية فكان قيرغيزستان (12%) وأوزباكستان (14%) ثم تايون، سنغافورة، روسيا، كازاخستان (15%). وكان المعدل العالمي للمشاعر السلبية 28%.
نلاحظ هنا، أنه ليس بالضرورة أن الأقل مشاعر إيجابية يكون من الأكثر مشاعر سلبية. لذا فإن الإجابة بنعم على الأسئلة العشرة (الإيجابية والسلبية) تعني أن درجة العاطفة مرتفعة (سرعة الانتقال بين الشعور الإيجابي والسلبي). وقد حصلت دول أمريكا اللاتينية على أعلى الدرجات في المشاعر العاطفية ومعها الفلبين وإيران، بينما حصلت روسيا ودول الاتحاد السوفييتي السابقة على الأقل عاطفياً.
ما هو موقع بلدان الشرق الأوسط؟ من ناحية المشاعر الإيجابية فدول المتقدمة هي: السعودية ومعها دول مجلس التعاون (عمان غير داخلة في الاستبيان)، ثم المغرب وليبيا، فيما آخرها كل من: اليمن وتركيا والعراق ثم أفغانستان وباكستان وإيران.. وفي الوسط مصر والأردن وتونس والجزائر. ومن ناحية المشاعر السلبية ففي المقدمة العراق وإيران، وآخرها السعودية ودول مجلس التعاون والمغرب، وفي الوسط: تركيا، مصر، ليبيا، الجزائر، تونس، اليمن.
يمكن الاستنتاج مما تقدم، أن مستوى المعيشة أو الدخل أو البطالة ليست عاملاً مسيطراً في التأثير على مزاج السكان أو مشاعرهم العاطفية.. هناك معايير دقيقة أخرى (المستوى الجزئي) غير المعايير الكبرى (المستوى الكلي).. وهناك مؤثرات في عواطف السكان لا تقل أهمية عن دخلهم الشهري.. إدراك ذلك هو المهمة الأصعب علينا جميعاً!