تقرير - محمد المرزوقي:
قصة يمتد نسيج أحداثها عبر أكثر من سبعين قرناً، أما فصولها فمخطوطة على ورق «البردي» تتجاذب أحداثها مفارقات الدهشة بين من بدؤوا سرد القصة قديماً وأدواتهم عبر تلك القرون، بدأ كتابتها الفرعونيون، وأعاد استحضار «أوراق» فصولها المصريون في ستينيات القرن الماضي، لورق لم يعد ينمو إلا على ضفاف النيل، ما جعل من هذا النبات بمثابة «ماركة نيلية»، إذ ينحصر وجوده في العصر الحديث ما بين تشاد والقاهرة، ما جعل من جميع محاولات زراعته خارج حوض النيل تبوء بالفشل، إلى جانب فشل زراعته خارج حوض النيل حتى في مصر! إذ إن الأجواء الحارة والرطبة، وجريان الماء بطريقة مستمرة - متجددة - أول أسرار انحصار بيئة البردي بين ضفتي النيل، إذ ينمو ساق البردي يومياً بمعدل (2.5 سم) ما يجعل من هذا النمو السريع سمة لافتة للنظر!
يقول أحد رواة هذه القصة، وهو الخطاط الشهير طاهر عبد القادر عمارة، الذي يعمل خطاطاً بمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية: نقطع البردي بمحاذاة السطح، ثم نقشر لحاء أوراقه ليتم استبعاده، أما اللب فيتم قصه بالمقاسات التي تدعو الحاجة إليها في شكل شرائح، يبلغ سمك كل منها (1ملم) إذ تتم بطريقة صعبة، ومن ثم وضع الشرائح في الماء لجفافها بعد التشريح، لمدة لا تقل عن يوم، ليتم بعد ذلك جمع الشرائح ووضعها بشكل متجاور، وذلك بوضع طرف كل شريحة على سابقتها بمسافة (1ملم) لنشكّل حالة تماسك كل شريحة بالأخرى، ثم يتم وضع شرائح بطريقة معاكسة للشرائح الأولى مما يزيد تداخل الشرائح، ومن ثم وضعها في مكابس تقوم بضغط الشرائح التي يتسرب منها الماء لسببين، الأول: ضغط المكبس، والآخر لما يتم وضعه من قماش القطن لتسريع التجفيف، وذلك بعد ترك البردي لمدة لا تقل (24 ساعة) ليتم الحصول بعدها على ورق البردي.
وباستحضار «أقدم فصول القصة»، قال خبير البرديات عبد القادر عمارة: استطاع الفراعنة التوصل إلى البردي، لوجوده في حوض النيل، ولقابلية قصّه في شرائح، تجفف يدوياً عن طريق الضغط عليها بالأحجار التي تقوم مقام المكابس اليوم، إضافة إلى أن ربط شرائحه بعضها ببعض لا يحتاج إلى مواد لدمجها ببعض فيما نعرفه اليوم من مواد الصمغ أو الغراء، ما دعاهم إليه في ظل ما كانت تشهده الحضارة الفرعونية من تطور يتطلب وجود الورق لشيوع الكتابة والرسم والفنون الأخرى، ما جعل من بدايات اكتشاف الفراعنة لورق البردي يمر بمرحلة ما يشبه «السرية» أو الخصوصية التي أراد الفراعنة أن يكون هذا الورق خاصاً بهم دون غيرهم.
أما عن وصول الحبكة إلى مرحلة «التنوير» فيقصها عمارة قائلاً: أعاد استخدام ورق البردي خلال ستينيات القرن الماضي، الدكتور حسن رجب وهو ضابط متقاعد من الجيش المصري، الذي عاد إلى دراسة الفرعونيات، وتبنى فكرة إعادة استخدام ورق البردي بعد غياب تجاوز سبعة آلاف عام، كما أسهم رجب في إعادة زراعته على النيل من خلال نقل نبات البردي لكونه لا يتكاثر بالبذور وإنما عن طريق الجذور، وأسس (معهد دراسات البرديات) وبنى (القرية الفرعونية) بالجيزة، التي تقدم لزوارها طريقة عمل البردي قديماً وحديثاً، إلى جانب طريقة عمل المجسمات والتماثيل، إذ كنت ممن تعلّم على يديه عمل البردي، أما آخرون من زملائي فقد أنشأوا ورشاً لإنتاج ورق البردي.
لقد شاع ورق القصة، وازداد رواجاً بما في ذلك تصديره خارج مصر، لما يتميز به من قبوله لجميع الأحبار والألوان قديماً والمصنعة حديثاً، بما في ذلك الأقلام الزيتية أو المائية، أو ما يُعرف بـ«الفلوماستر» دون أن يتأثر منها، دون أن يفقد الحبر درجته اللونية، أو شيئاً من رونقه باستعماله على ورق البردي، ما جعل منه مادة طيعة جداً للفنانين التشكيليين، وللخطاطين - أيضاً - باستثناء ما يحتاجه التعديل على هذا النوع من الورق من قص وتركيب، إضافة إلى ما يميّزه تداخل شرائحه من تدرج جمالي يشعرك بوجود «خلفية» لسطح الورقة ما يجعله فريداً بجماليات تكوينه.. ولكون عقدة القصة «مركبة» فقد عاد البرديّ إلى الانقراض الشاسع.. ومهنته إلى الاضمحلال المتسارع!