د. عبدالحق عزوزي
إذا تتبعنا نفسية المتعصبين الخارجين عن دائرة الإسلام الصحيحة والذين يقوضون بسياساتهم وأفكارهم روح الإسلام الصحيحة ستجدهم يسبحون في عالم عجيب ما أنزل الله به من سلطان؛ فهناك من أهل الحسد والتعصب من يرى أن العدول عن مذهب ولو في قيد شبر كفر، ومباينته ولو في شيء نزر ضلال ومنشأ ذلك قصور في النفس، وهو التعصب واتباع الهوى وهو أيضا قصور في العقل، وهو الجهل {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (الأحزاب 72)، وأكثر الخائضين في هذا إنما يحركهم التعصب واتباع الهوى دون التصلب للدين. فما أحوجنا إلى أن نرد الأمور إلى أصولها الحقيقية الصافية والسهلة (إن الدين يسر)؛ فتقليد البعض ومحاكاتهم من غير أن ينظر المقلدون نظرة عقلية مجردة قد تغلق باب الاجتهاد.. وإن نزعة التقليد متغلغلة في نفوس الناس توجههم وهم لا يشعرون، وإن سلطان الأفكار التي اكتسبت قداسة بمرور الأيام تسيطر على القلوب، فتدفع العقول إلى وضع براهين لبيان حسنها وقبح غيرها، ومن الطبيعي أن يدفع ذلك إلى الاختلاف والمجادلة غير المنتجة لأن كل شخص يناقش وهو مصفد بقيود الاتباع الخاطئة من حيث لا يشعر وهذا هو دأب القاعدة اليوم وداعش وكل الجماعات السياسية الدينية المسلحة!.. وإنه ينشأ عن التقليد التعصب، لأن قدسية الآراء التي يقلدها الشخص تدفعه إلى التعصب لها، وحيث كان التعصب الشديد، كان الاختلاف الشديد.. وحيث كان الاختلاف الشديد كان الاختلاف المقيت الذي يغلق أبواب الحوار ونوافذه ويضعه في بروج مشيدة.
فها هو مالك رضي الله عنه يوصي طلابه وأتباعه بأن ينظروا في كلامه فما وافق كتاب الله وسنة رسوله أخذوا به وإلا ردوه، كما كان يقول «ما من أحد إلا وهو مأخوذ من كلامه ومردود عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم»، وفي رواية أخرى للإمام الشافعي: «إذا رأيتم كلامي يخالف الحديث فاعملوا بالحديث واضربوا بكلامي الحائط»، وقال يوما للمزني: «يا إبراهيم لا تقلدني في كل ما أقول، وانظر في ذلك بنفسك...»؛ وقال سعد بن حنبل لرجل «لا تقلدني ولا تقلدن مالكا ولا الأوزاعي ولا النخعي ولا غيرهم، وخذ الأحكام من حيث أخذوا».
وهاته قمة في التسامح وقمة في الاعتراف بالنقص وقمة في الأخذ بكلام الآخر إذا كانت حجته أقوى... ومن الحقائق الثابتة في تاريخ الأمة الإسلامية وتاريخ البشرية أن الناس مختلفون في تفكيرهم؛ فالإنسان كما يقول الإمام محمد أبو زهرة من وقت نشأته أخذ ينظر نظرات فلسفية إلى الكون فلابد أن نقول إن الصور والأسئلة التي تثيرها تلك النظرات تختلف في الناس باختلاف ما تقع عليه أنظارهم وما يثير إعجابهم.
ومثل المتناسي لضرورة قبول الآخر كمثل أولئك الذين وصفهم ابن خلدون في مقدمته عندما تحدث عن أناس يتلذذون بتغيير حقائق التاريخ أو الخوض فيه دون الإلمام بقواعده حتى زلت أقدام الكثيرين وعلقت بأفكارهم مغالطات ونقلها عنهم الكافة من ضعفة النظر والغفلة عن القياس وتلقوها هم أيضا كذلك من غير بحث ولا روية واندرجت في محفوظاتهم.. فالكثير ممن يشعلون الفتن الطائفية في بعض الدول العربية ينقلون إلى أعوام الناس أمورا واهية لا يرجعون حقائقها إلى الأصول الصحيحة المبنية على الرحمة وقبول الآخر والحوار البناء والمجادلة بالتي هي أحسن.
ومما يؤسف له أننا نجد أناسا يدعون أن لهم حق الوصاية على الناس، بحكم انتماءاتهم أو الأفضلية، ويقومون بإملاء ما يرون على الناس بالتقية أو بالاستدراج الذكي، أو بالقوة والعنف، فهو من نفث الشيطان لا من وحي الرحمن الكبير المتعالي.. ثم إن للسياسة وتسيير البلدان شروطا وقواعد، سماتها سمات عالمية، تتغير فقط بعض من بنودها البسيطة حسب الأحوال والأمصار وطبائع البشر، وكلما كانت هناك جماعات فاشية كما ظهر ذلك في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي في أوروبا، أو كانت هناك جماعات سياسية دينية تدعي أنها تملك حق الوصاية على رقاب الناس في الداخل والخارج إلا وكان مآلها الفشل، ولكن بعد أن تأتي للأسف الشديد على الأخضر واليابس.. وكم من قادة منظرين لقواعد التفكيك والخراب في داعش كانوا في أحزاب إسلامية تربوا في إيديولوجيتهم، ورفعوا بها أمجادهم الخاوية على عروشها لا أحياها الله بعد مماتها.. فانفجرت الحروب المذهبية والطائفية داخل البلد الواحد وعبر الحدود، وتغيرت بعض الأنظمة السياسية لكي تصل دولها إلى مرحلة التفكك كليبيا مثلا، وليسيطر فاعلون إرهابيون مسلحون وميليشيات مسلحة على أراضي شاسعة في مناطق عديدة من أراضي المسلمين، ولله الأمر من قبل ومن بعد.