د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في كتاب اسمه «التجارة والتجار في الأندلس» كتبت السيد «أوليفينا» مؤلفة الكتاب بعضًا عمّا ما كان سائدًا من أعمال تجارية في العصر الوسيط، الذي كان فيه المسلمون يقطنون جزءًا لا بأس به من إسبانيا، بعد أن تعدوا كثيرًا من أرضهم الإسبانية، وفقدوا ما بقي فيما بعد.
لقد كانت التجارة رائجة في ذلك العصر بين المسلمين في إسبانيا، والممالك المجاورة وغير المجاورة، ومن ضمنها مصر، التي ركزت السيدة المؤلفة على وثائق «الجنيزا» التي كانت محفوظة في مصر القديمة، وهي تحوي وثائق تدل على التبادل التجاري والمبيعات بين التجار، والتجار هم أولئك الذين يقومون بالتبادل التجاري سواء محليًا أو تجارة دولية، ولمسافات بعيدة.
يقول أبو الفضل الدمشقي واصفًا التجار في العصر الوسيط بأنهم ثلاثة أصناف، وهم الخزان، أو الفراز، وهو تاجر حضري يخزن السلع في موسم الرخص ويبيعها في موسم الغلاء، والصنف الثاني هو «الركاض» الذي كان يرتحل لأجل أعماله التجارية، بتجارته أو مع بضاعة غيره، أو بهما معًا، وآخر هؤلاء هو المجهز، وهو مصدر ومستورد حضري، ويبدو أن المجهز هو الذي يقوم بالتجارة الفعلية بين الممالك والأندلس في ذلك العصر، وكان يعمل كمنظم مركزي لشبكة واسعة من الرحالة والشركاء الحضريين في الأماكن البعيدة، ويمكن أن تنطبق هذه الأصناف من التجارة التي يمارسها التجار في الشرق على ما يتم في الأندلس في ذلك العصر.
ممن عرف بممارسة تلك التجارة ابن حوقل، ونهراوي بن نسيب، وكانوا يديرون تجارتهم من قاعدة مركزية في مصر القديمة، وهم يعتبرون من التجار المجهزين، ومن ضمن أولئك التجار المجهزين، ومن ضمن أولئك التجار هلفون بن نسي الذي عاش في القرن الثاني عشر وتجول كثيرًا وبعيدًا، ويمكن وصفه بالتاجر الركاض، لأن صفات ماكان يمارسه من تجارة تنطبق على ذلك.
والواقع أن هؤلاء التجار، يبدلون من أوضاعهم ومجالات أنشطتهم في مختلف مراحل حياتهم منذ شبابهم وانخراطهم في هذه المهنة. فبعد أن يؤسس شاب عملاً تجاريًا يقوم بالترحال إلى أماكن قريبة أو بعيدة، مكتسبًا الخبرة والمعرفة، وأيضًا مكثفًا من علاقاته الشخصية التي تلعب دورًا كبيرًا في المضمار التجاري، بين التجارة فيما بينهم، وبين التجارة والمستهلكين، وعادة ما يكون التاجر الأكثر خبرة ومعرفة أكثر قربًا لأن يكون تاجرًا حضريًا أو مجهزًا.
هناك أنماط أخرى من التجار غير أولئك الثلاثة التي ذكرها الدمشقي، مثل بعض السماسرة والوكلاء والوسطاء، وغيرهم وقد يتنقلون في أحياء بين كثيرة من مناطق عملهم إلى ما هو أبعد من ذلك، ويقومون بجزء من التجارة البينية مع الممالك المجاورة، إضافة إلى ذلك هناك باعة متجولون ربما يتنقلون خارج أزقتهم وطرقهم التي اعتادوا البيع فيها، ليدخلوا حدود ممالك مسيحية مجاورة، وقد ناقش السقطي تحركات هؤلاء الباعة، الذي كان يراقبهم في أوائل القرن الثالث عشر، وسماهم تارة بالتجار المسافرين، وتارة بالتجار المتجولين، لكن وعلى وجه العموم فإن مثل هذا النشاط التجاري الذي يقوم به هؤلاء الباعة محدود جدًا فيما يخص التبادل التجاري عبر الحدود، أما أصحاب الحوانيت فإن بعضًا منهم يمارس نشاطه عند الحدود، وقد يمارس تجارة دولية لكن تظل محدودة.
في الحقيقة أن التجارة الدولية بشكل عام، وما يقوم به التجار في ذلك، لا يخضع لقوانين محدودة، لكنّ هناك بعضًا من الفتاوى القائمة التي يحددها الفقهاء، للحكم فيما قد يحدث بين التجار، لا سيما بين الممالك الإسلامية، أما تلك التجارة البينية بين الممالك الإسلامية والمسيحية، فإن الأعراف السائدة هي التي يتم اللجوء إليها في الأغلب.
هذه نبذة عن شيء من التجارة، بين الممالك الإسلامية والتجارة آنذاك، والبون شاسع بين أنماط التجارة الدولية في الأندلس والعالم أجمع في عصور مضت، وبين ما نعيشه اليوم.