د. محمد بن إبراهيم الملحم
في ورقة بحثية أعدها أربعة خبراء من جامعات هارفارد وستانفورد وكاليفورنيا-لوس أنجليس وصندوق النقد الدولي تم وصف علاقة النمو الاقتصادي للدولة بجودة التعليم النوعية بنموذج يعتمد على نوعين من الاقتصاديات: الدول التي يقوم اقتصادها على المحاكاة imitation والدول التي يقوم اقتصادها على الابتكار innovation . ويرى هذا النموذج أن الدول المعتمد اقتصادها على المحاكاة تكسب مرة واحدة من جودة التعليم بينما تلك المعتمد اقتصادها على الابتكار تكسب مرتين: فالأولى تستثمر في مراحل التعليم دون التعليم العالي (الثانوي والمهني) حيث هدفها توفير القوى العاملة المدربة لنوع اقتصادها بينما خريجوا التعليم العالي لا يجدون لهم فرصا مناسبة بسبب غياب مؤسسات الاقتصاد الابتكارية الأمر الذي يمثل فرصة للدول من النوع الثاني والمعتمد اقتصادها على الابتكار (وهي عادة تدفع أجورا أعلى من دول النوع الأول) فينتقل إليها هؤلاء للعمل بجوار خريجيها من التعليم العالي. وهذا بدوره يحمي مستوى الأجور فيها فلا تتضخم بما يضر باستقرار اقتصادها الابتكاري نظرا لزيادة تعداد الكفاءات العالية فيها. وفوق ذلك يكون التعليم العالي فيها أيضا عامل جذب للقوى العاملة ذات المستوى الابتكاري للانتقال إليها والانخراط في تعليمها العالي منذ البداية لكونه موجها نحو الابتكار وهو ما يحافظ أيضا على استقرار هذه المؤسسات التعليمية في مستواها المتقدم.
وأشار هؤلاء الباحثين إلى دراسة شملت أكثر من مائتي شركة ومؤسسة أمريكية بين 1970 و 1985 حيث وجدت أن المؤسسات التي لدى مديريها مؤهلات عالية في العلوم والتقنية تنفق أكثر على الأبحاث والتطوير الأمر الذي ينعكس على ازدهار الابتكار لدى هذه الشركات، وهذا ما يجعل تلك الشركات تستقطب المتميزين في تلك التخصصات وهو أيضا ما يحث الدول على الاستثمار في التعليم العالي المتميز نوعيا، خاصة في تلك التخصصات. وهذه علاقة منطقية واضحة المعالم، لكنما تأتي الدراسات لتؤكد توقعاتنا بما يطمئن الدول المستثمرة في جودة التعليم إلى صحة استثمارها ذلك وتيقن عائداته الاقتصادية الإيجابية. وبدون شك لا يمكن أن يزدهر مثل هذا النموذج في ظل معطيات شاذة كالفساد المالي أو الإداري، أو حتى الإضطرابات الاستراتيجية، فبدون ديمومة تخطيطية (sustainable planning) لا يمكن لمسار نمو اقتصادي أن يرى النور أو ينتعش وتظهر ثماره المرجوة.
مثل هذه النماذج العملية في واقع الدول المعاصرة ينبغي أن تكون أساسا لدى مخططي التعليم المستهدف للتنمية الاقتصادية بحيث ينمط التعليم نحو أهداف مرحلية تتدرج بين هذه النماذج بطريقة منطقية وواقعية حسب معطيات الاقتصاد المحلي والمتغيرات الاجتماعية سواء في أنساقها القائمة أو أطرها المستقبلية.