قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ). وتقول العرب: «صنعُ الجميلِ وَفعلُ الخيرِ إِنْ أُثِرا، أبقى وَأَحمدُ أَعمالِ الفتى أَثَرا». حتى تكون مؤثراً في الناس لا بد أن تكون «مبادراً»، وحتى تكون مبادراً لا بد أن تسبقهم بخطوة. المتأمل في سير من صنعوا التاريخ، وأثّروا في الحياة، وساهموا في بناء المجتمعات، هم أولئك المبادرون الذين أخذوا زمام الأمر والفكر والرأي، وقرّروا أن يمضوا قدماً، ويخوضوا البدايات رغم ما يكتنفها من تحديات ومعوقات، تجاوزوها بإصرار وبإرادة نادرة ستحملها لهم عربة التاريخ موسومة بشرف المبادرة للأجيال القادمة.
إذا ما قُدِّرَ لك أن تكون في دائرة الأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني ستكتشف أنك أمام شخصية «مُبادِرة»، تعيش في تحدٍّ وصراع دائم مع الذات نحو تحقيق «الخطوة الأولى» دائماً، التي هي بمنزلة منهج «تَّقَدُّم» يُمكِّن عملياً من الانتقال من واقع معاش إلى مستقبل مختلف تماماً قد لا يراه الآخرون، وربما لا يشعرون به، وقد يعارضونه، ولكنهم يوماً ما سيؤمنون به، ويبحثون عنه، ويحذون حذوه.. الشواهد كثيرة، والتجارب مبرهنة، لكن «الاستثنائي» منها تلك الرحلة مع بيوت الله الواقعة في قلب المدن والقرى والأحياء التاريخية، والعمل على إعادة الحياة لها وتهيئتها للعبادة من جديد بعد أن توارت حقبة من الزمن ثمناً لمتغيرات عمرانية غير مبررة، أفقدتها دورها الريادي في المجتمع، وباتت عمراناً مع وقف التنفيذ.
في عام 1418هـ، وبمبادرة من الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز ومعالي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد آنذاك، وافق صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز - رحمه الله - على رعاية برنامج جديد للعناية بالمساجد التاريخية، يُعنى بإعادة بنائها وترميمها وتأهيلها وتوثيق تاريخها، وجعلها متاحة للناس للصلاة فيها. وقد كان ذلك البرنامج تأطيراً لجهود سابقة، عمل عليها الأمير سلطان بن سلمان بصفة شخصية، ومن خلال مؤسسة التراث منذ وقت مبكر، ومرَّ البرنامج بعدها بمراحل تطوير مؤسسي في إطار عمل دؤوب ومستمر منذ ذلك الحين إلى أن توج عام 1436هـ بموافقة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - على رعاية برنامج خاص للعناية بالمساجد التاريخية في محيط مشروع الدرعية التاريخية، وتوجيهه الكريم أن تكون مثل هذه المشاريع ذات أولوية في كل مناطق المملكة، حتى أصبح في يومنا هذا برنامجاً قائماً للعناية بالمساجد التاريخية بإشراف الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، وبالتعاون مع وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد، ضمن منظومة المحافظة على التراث الحضاري للمملكة.
في رحلة الأمير سلطان بن سلمان مع عمارة المساجد التاريخية ثمة بُعد «عمراني ومعماري» فريد، يضاف إلى كونها عملاً لوجه الله تعالى، يكمن في تحفيز مبادرات إعادة الحياة للمدن والقرى التاريخية من خلال استراتيجية تأهيل مساجدها، باعتبار أن تلك التجمعات العمرانية تمحورت حول المسجد كنواة رئيسة لنشأتها ونموها، وتشكل تخطيطها وعمرانها وبناء مجتمعها وتكوّن مؤسساتها المختلفة وممارسة أنشطتها. هذه الفلسفة في إدارة المدن التاريخية سجلت نتائجها حراكاً غير مسبوق، وفي زمن قياسي، من قِبل أفراد المجتمع ومؤسساته الحكومية والخاصة نحو العناية بالمساجد التاريخية، وتحفيز الحياة في محيطها العمراني، وتشجيع عودة الناس لمدنهم وقراهم ومواقعهم ومنازلهم، واستثمارها بشكل أمثل. التجربة الفريدة في عمارة المساجد التاريخية وإحيائها ستبقى «سُنة حسنة» لتأصيل ثقافة «عمارة الأرض» ديناً ودُنيا، فـ»مَن يَفعَلِ الخَيرَ لا يَعدَم جَوازِيَهُ، لا يَذهَبُ العُرفُ بَينَ اللَهِ وَالناسِ».
** **
- متخصص في التخطيط والتصميم العمراني وإدارة المدن