عروبة المنيف
أسهمت الطفرات النفطية التي نعايشها في إحداث آثار جانبية على سلوكياتنا وأخص هنا «المبالغة في الاستهلاك»، فقد كان لشظف العيش والتقشف في زمن ما قبل النفط دور أيضًا في شيوع ثقافة «الزود ولا النقص» كسلوك استهلاكي تم ترسيخه في ذاكرة أجيال الطفرات النفطية، ففي الثقافة العربية البدوية على سبيل المثال، كان المضيف لا يتوقع عدد ضيوفه، فيزيد من حجم وليمته لتكفي المدعويين وغير المدعويين، ولكن في الزمن الحالي، باتت ثقافة «الزود ولا النقص» غير واردة، فالمضيف الآن يعرف بالضبط عدد ضيوفه ويستطيع تحديد الكمية الكافية لهم بطريقة سهلة من دون «زيادة ولا نقص».
إن ثقافة «الزود ولا النقص» لاقت بيئة خصبة مع تدفق الوفرة المادية المعيشة بفعل الطفرات النفطية، فسيطرت على الكثير من أمور حياتنا المعيشية، وشاعت مؤخرًا تلك الثقافة في موائد «إفطار صائم» في شهر رمضان هذه السنة، الذي يكون قد ودعنا، وندعو الله أن يتسلمه منا بصيامه وقيامه. تقارير دورية متعددة نشرت خلال الشهر الفضيل تحذر من الهدر الغذائي الذي نتج عن تلك الموائد الذي فاق ما تم استهلاكه منها بالفعل، وحسب تلك التقارير فقد لاقت كميات كبيرة من «وجبات إفطار صائم» طريقها إلى حاويات النفايات، وقدرت كلفة تلك الموائد في المدينة الواحدة بخمسة وأربعين مليون ريال لتتجاوز الكلفة الكلية مئات الملايين من الريالات في جميع مدن المملكة، وارتفعت الأصوات محذرة من كميات الأطعمة المهدرة سواء في المساجد أو الجوامع أو في محيطهما، وتعددت عدد الوجبات المقدمة لكل صائم سواء وقت الإفطار أو السحور. إن الصائم لا يحتاج لتفطيره سوى حبات من التمر وجرعات من الماء، وما تم هدره من طعام مبالغ في كمياته هو من «الزود» الذي لاقى طريقه إلى أماكن الحاويات. وبما أن الشهر الفضيل قد انتهى، أدعو لعمل دراسه تهدف إلى تحديد مقدار الهدر الذي حدث لتلك الموائد الرمضانية والجدوى من تلك الموائد في تحقيق أهدافها المرجوة، فأغلبية المستفيدين من تلك الموائد هم من العمالة الأجنبية التي تفوق مكاسبها وحوالاتها للخارج المليارات من الريالات. ألم يكن من الأجدى تسخير الأموال المهدرة في مشروعات «تفطير صائم» مبالغ فيها، في فك كربة مواطن مديون أو تزويج شاب معسر، أو إنشاء مساكن لمحتاجين أو إعالة أيتام أو تعليم نشئ أو تجهيز مستشفى، إن وجوه الخير كثيرة وقنواته مفتوحة والمستحقون موجودون، فالزيادة في الأكل لا يجلب سوى التخمة والمرض، وعمل الخير ليس بتعبئة البطون فقط، بل بالارتقاء بالأنفس والعقول، إن ما كشفه رئيس جمعية حماية المستهلك من حقائق مقلقة تشير إلى نسبة الفاقد في فاتورة الغذاء في السعودية التي تراوح ما بين 50-70 في المائة، تجعل من عملية إعادة هيكلة الثقافة الاستهلاكية الغذائية أمرًا حتميًا، ألا يكفي تصدرنا المركز الأول عالميًا في إهدار الطعام. لنتدبر!