يوسف بن محمد العتيق
لا يختلف اثنان على المكانة العلمية والأدبية للراحل الكبير أحمد السباعي رحمه الله (ابن مكة البار) فهو رائد في الصحافة يشهد على ذلك تأسيسه ومشاركته في إدارة صحيفة صوت الحجاز الصحيفة العريقة في عهد الملك المؤسس، ودوره الكبير في تأسيس صحف أخرى، وهو مؤرخ قدير كتب الكتاب الأشهر (تاريخ مكة.. دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران) وهو تاريخ لأم القرى مكة المكرمة منذ قبل الإسلام وحتى العهد السعودي، وله مشاركات أدبية وثقافية كبيرة كرمه عليها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد رحمه الله ومنحه جائزة الدولة في الأدب.
وهو من الرواد في الثقافة بشكل عام، وله حضوره الكبير في المسرح وغيره من الجوانب التي تدل على مكانته الكبيرة في الثقافة والأدب وإنه عالم ضليع ومتمكن.
ومع هذا وذاك فلم نجد السباعي معتداً بنفسه متفاخراً بكتبه، بل وجدنا منه العكس من ذلك تماماً، فهو في مقدمة كتابه آنف الذكر عن مكة المكرمة، بدأ يعدد من لهم ملحوظات على عمله، ومن طلب هو منهم شخصياً أن يعطوه ملحوظاتهم على العمل حتى يخرج عمله العلمي بصورة جيدة.
وهذه النفسية، وهذا الخلق الجبار هو الذي يجب أن يكون عند الجميع لا سيما من انبرى للكتابة والتأليف.
أترككم مع حديث السباعي في مقدمة كتابه عن مكة، حيث ذكر في مقدمة الطبعة الثانية ردة الفعل والملحوظات على عمله وجاء في حديثه:
(وبلغ بعض المحققين عزمي على إعادة الطبع فكتب إلي الأستاذ عبد القدوس الأنصاري عن رأيه في ترتيب بعض فصول الكتاب، وكتب إلي السيد هادون العطاس يقترح بعض ملاحظات رآها في كتابتي عن العهد الفاطمي كما كتب إلي الأستاذ عبد الله المزروع بما لاحظه في كتابتي عن بعض العصور المتأخرة. كما لاحظ الأستاذ عبد الله عبد الجبار والأستاذ إبراهيم فلالي ـ رحمه الله ـ بعض نقاط في الكتاب كانت إحداها تتعلق بمذهب القرامطة والأخرى تتعلق بالأمثال والحكم في العهد الجاهلي فأعرت جميع ذلك انتباها خاصا وراجعت في شأنه المصادر التي تعينت مراجعتها فأصلحت ما تراءى لي ضرورة إصلاحه. شاكراً لهم دقتهم في الملاحظة وعنايتهم بي.
وفي إحدى رحلاتي إلى الرياض زرت العلامة المحقق الأستاذ حمد الجاسر في بيته مؤملاً أن أسمع رأيه فيما بدا له من ملاحظات في الطبعة الأولى فوجدته يحتفظ بثبت أدرج فيه ما لاحظه علي للطبعة الأولى فقدرت له هذه العناية وأكثرت إخلاصه للفن بعد أن تسلمت منه الثبت.
هذا نص حديثه في مقدمة كتابه، وهو يحفل بالملحوظات مع ذكر وشكر أصحابها بل يثني عليهم دقة الملاحظة!!
وهنا سؤال.. هل نقصت قيمة كتابات السباعي حين عدد ملحوظات الآخرين عليه في كتبه، وفي هذا الكتاب عن مكة تحديداً؟!
الجواب: بل زادت قيمته، وزاد إقبالاً على كتابه كونه محل عناية العلماء الآخرين ونقدهم وتصويبهم، بل هذا الكتاب لا يزال يعاد طبعه حتى يومنا هذا، وهو من الكتب التي طبعت بمناسبة مرور مائة عام على تأسيس المملكة العربية السعودية، ونحن الآن بعد وفاة المؤلف بأكثر من ثلاثين عاما، لازلنا ننقل عن هذا الكتاب ونستفيد منه.
هذا النموذج من المؤلفين ونتاجهم من الكتب هو الذي يبقى عقوداً وقروناً لأنه قبل أن يخرج إلى القارئ مر بمرحلة من التمحيص والتدقيق من كبار العلماء والمؤرخين، وبالتالي أصبح الكتاب دائماً وأبداً في الواجهة.
وهنا لابد من التذكر والتأكيد أن المؤلف مهما كان متميزاً فهو قوي بزملائه الذين يساعدونه حتى ينجز عمله بالصورة المطلوبة.
ولنتذكر مقول الأديب الذي تحدث عن أن الكتب مهما كان الاستعداد لها لابد أن يعتريها النقص لأنها من صنع البشر، حيث قال ذلك الأديب مخاطباً قراءه:
«وذلك إني رأيتُ أنه لا يكتب أحد كتاباً في يومهِ إلا قال في غَدِهِ: لو غير هذا لكان أحسن ولو زيد هذا لكان يُستحَسن ولو قُدَّم هذا لكان أفضل ولو تُرِك هذا لكان أجمل. وهذا أعظم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر».