د. محمد عبدالله العوين
لم تكن فكرة قناة عربية قوية تعمل على تنفيذ الخطة التي عقد العزم عليها «الحمدان» وليدة لحظة عابرة بعد انقلاب الابن على أبيه 1995م؛ بل كانت فكرة القناة أحد أبرز خطوات ما بعد الانقلاب، وفور نجاح الابن في طرد أبيه من السلطة كانت كوكبة مذيعي قناة bbc العربية التي كانت تبث من شركة أوربت جاهزة بعد إلغاء عقدها مطلع 1996م فكان لابد من جلسات عمل طويلة مع النخبة المميزة من مذيعي البي بي سي العرب لاختيار الشعار الذي يعبر عن هوية القناة؛ ففكر ملياً الإذاعي الأردني جميل عازار ثم خط بيده عبارة «الرأي.. والرأي الآخر» فكانت محل اتفاق الجميع ومباركة حمد بن خليفة لهذا الشعار.
لن ننشغل الآن بالبحث عن مدى توافق ما قدمته الجزيرة مع شعارها المعلن؛ فربما تسنح لنا فرصة ولو في بضعة أسطر للمقارنة بين الحقيقة والوهم؛ لكن ما يحسن أن نلتفت إليه قبل الخوض في أخلاقيات المهنة الإعلامية التي انتهكتها القناة بكل جسارة من خلال مهارة مذيعيها الفائقة ومقدمي برامجها على تقمص لبوس لكل الأدوار السياسية والفكرية.
ما معنى اختيار حمد بن خليفة لاسم «الجزيرة» ولم خص جزيرة العرب كلها بتوجيه الخطاب الإعلامي إليها، وليست قطر إلا نتفة صغيرة لا ترى إلا بالمكبر في خارطة جزيرة العرب؟! وما هو ذلك الطموح الخفي الذي يدفع واضع خطة العمل السرية المبيتة فيتجاسر صاحبه ولا يخفيه، وكأنه يريد أن يقول إنني أريد صياغة فكر ومستقبل ورؤية الجزيرة العربية للانتقال بقطر من دويلة صغيرة إلى دولة كبرى تهيمن على شبه الجزيرة العربية، ولا يمكنني أن أصل إلى تلك الغاية البعيدة بالوسيلة الإعلامية فحسب؛ بل بمساعدة دول كبرى مستفيدة من رؤية التغيير للحفاظ على التوازن بين إسرائيل ودول العرب التي يجب أن تتفتت وتكون قطر رائدة التغيير ولها النصيب الأكبر بعد الانتهاء من حالة الفوضى التي ستخلق واقعاً مختلفاً ورسماً لخرائط جديدة للمنطقة.
كان حمد بن خليفة مع حمد بن جاسم يعملان معاً على تحقيق خطة التغيير بأدوات متعددة؛ منها قناة الجزيرة، وتبني جماعة الإخوان، والالتحام مع إيران، والتفاهم مع استخبارات دول كبرى مقتنعة بضرورة تفتيت المفتت وخلق شرق أوسط جديد، والتعاون مع إسرائيل.
ولأننا معنيون في هذا المقال بالجزيرة كأداة من أدوات التغيير الذي يهدف له الحمدان فقد توجب على الديوان الأميري دفع تكاليف نفقات القناة كاملة وبسخاء شديد، وإحسان اختيار الكفاءات الإعلامية التي ستنهض بمهمة التغيير، وهاهم بين يدي حمد بن خليفة من مختلف التوجهات الأيدلوجية والسياسية والدينية، أو من ذوي التوجهات القومية والبعثية واليسارية والإخوانية التي تناغمت في مجملها لاحقاً وشكلت خطاب الجزيرة الإعلامي الذي يعبر عن خطة التغيير في المنطقة العربية بعامة وفي المملكة بخاصة.
لم يكن عسيراً على إعلاميي عرب الشمال، سواء من فلسطين أو سوريا أو الأردن أو حتى مصر وتونس والجزائر تقمص الشخصية الإخوانية والتشبع بفكرها وإعادة صياغته بأسلوب يقربه إلى المتلقين؛ حتى ولو لم يكن أي من هؤلاء له صلة من قريب أو من بعيد بجماعة الإخوان المسلمين؛ سواء من الجيل الأول المؤسس للقناة كجميل عازار وسامي حداد وإسماعيل الأمين وفيصل القاسم وجمال ريان، أو من الجيل الأوسط كالتونسي غسان بن جدو أو المصري الإخواني أحمد منصور.
بقي هؤلاء يحملون خطاب التثوير والفوضى لإرضاء أحلام حمد بن خليفة وبن جاسم برعاية من عزمي بشارة الذي أوكلت إليه مهام رسم سياسة القناة لتحقيق الغاية البعيدة.
أما الإعلاميون الشرفاء فقد رحلوا من القناة بعد اكتشافهم زيفها وارتهانها لأجندة تمزق الوطن العربي وتسعى إلى تخليق الفوضى في دياره، وبقي الذين باعوا ضمائرهم للدولار القطري.
لقد بدأ انهيار القناة بانكشاف أهدافها الدنيئة وعمالتها وخيانتها قيم النزاهة والحيادية التي ترفع شعارها وهي تطعنه بالتنكر له في كل خبر أو حوار.