عبدالعزيز القاضي
احمس ثلاث يا نديمي على ساق
تتجدد الإثارة حول قصيدة القاضي في وصف القهوة، وتظهر بين فينة وأخرى قضية تعيد الأسئلة القديمة وأسئلة جديدة أخرى حولها، وهذا كله بلا شك من وهج جمالها وبراعتها.
أما القضية الأولى التي تتردد دائماً وهي ما ستكون موضوع هذا الجزء من هذه السياحة فهي ربط القصيدة بتلك القصة المزعومة التي أضفت عليها إثارة، حيث زعموا أنه روهن على أن يقول قصيدة في وصف القهوة دون أن يتطرق فيها للغزل، ثم ذكروا أحداثاً ترتبت على هذا الرهان مما لا يقبله العقل ولا المنطق ولا يجد ما يدعمه في تسلسل القصيدة، وقد ناقشت هذا في بعض المقالات وفي كتابي عن الشاعر، ونفيت القصة نفياً قاطعاً وبرهنت على النفي بالنقل والعقل. ومنذ فترة قصيرة أطلعني الصديق المثقف عاشق الكتب الأستاذ محمد السليمان القبيّل على رابط كتاب (نزهة الألباب في تاريخ مصر، وشعراء العصر، ومراسلات الأحباب) لمحمد حسني أفندي العامري، المطبوع في عام 1314هـ - 1896م، المنشور على الشبكة، وأشار إلى ما أورده عن الشاعر القاضي، وذكر أنه ربما يكون هذا الكتاب هو أول كتاب مطبوع يوثق قصيدة القهوة، وأظن أن هذا هو الأقرب للصواب. وعندما قرأت ما أورده المؤلف عن القاضي، وكان الاستغراب وقتها قد أخذني حول اهتمام مؤلف مصري قديم بقصيدة نبطية نجدية، وجدت أن حديثه جاء استطرادًا لحديثه عن اهتمام العرب قديماً وحديثاً بمكارم الأخلاق وافتخارهم بها، وأنهم يضمنون ذلك في أشعارهم التي وصفها المتأخر منها بـ(الحمينية)! واستشهد على ذلك بأبيات من قصيدة دغيم الظلماوي الشهيرة (يا كليب شب النار). ثم قال بعد هذه الأبيات مباشرة ما نصه: «ولما أشكل علي كتابة هذا النظم من ألفاظ ناقليه تجار الإبل الذين يمرون على ميناء السويس سنوياً قاصدين وطنهم وتعذر علي فهم بعض المعاني مع تشوقي لمعرفتها بعثت أطلب الرشد من عالم عارف بكلام البدو والحضر وشاعر ماهر في القريض والحميني وهو الشيخ الفاضل مبارك بن مساعد البسام، المقيم الآن بجدة، عما أشكل علي من قول الظلماوي السابق وعن نمر بن عدوان من شعراء نجد المشهورين(!)، فورد منه الجواب الآتي، قال أبقاه الله: بعد السلام ...». ثم أورد ما كتب إليه مبارك البسام بشأن ما سأله عنه. ثم ذكر أن البسام كتب له «الأقوال الشعرية الآتيه من نظم الشاعر المجيد، والواعظ المفيد، محمد بن عبدالله القاضي، من بلدته عنيزة المتوفى عام 1285هـ فأرويها نقلاً عنه وله الشكر الجزيل». ثم أورد أبياتاً من عدد من قصائد القاضي المشهورة، وختم حديثه عن القاضي بأبيات من قصيدة القهوة، وقال في التقديم لها: «وله قصيدة على القهوة بديعة تستحق التدوين في هذا الفر الثمين، أنشدها لي كل من حمد الجريفاني وعبدالعزيز بن محمد وصالح بن عبدالله، من أهالي بريدة بنجد. وقيل إن محمد العبدالله القاضي المذكور كان يضمن قصائده بعض الغزل في العذارى حتى ظن بعض العرب أنه لا يمكنه الإتيان بشعر خالٍ عن ذكر النساء بالكلية، وأوجب هذا أن يقترح عليه جمع من أفاضل نجد بنظم قصيدة على القهوة لا يتعرض فيها بوصف الغواني، وجعلوا له جائزة إن وفى بالمطلوب فأنشدهم القصيدة الآتية ارتجالاً، قال رحمه الله: ...». ثم أورد عددًا من الأبيات التي تناولت وصف القهوة، ثم قال: «وبعد أن أطال الشرح في القهوة على هذا المنوال قال للمقترحين: قد تنازلت لكم عن الجائزة وأعطر ختام قصيدتي بذكر الغانيات، وقال: يحتاج من خمر السكارى ...إلخ».
وقد أوردت هذه المقتطفات من الكتاب لأهميتها التاريخية أولاً بحكم أنها وردت في كتاب مطبوع أشارك الصديق محمد القبيّل في الظن أنه الأقدم الذي أورد شعرا للقاضي ولغيره، ولأن فيها ما يؤيد نفي القصة المختلقة التي ألصقت بالقصيدة، فهو كما ترى يتحدث عن (اقتراح) لا رهان، ووصف الطرف المقترح بأنه (جمع من أفاضل نجد) وأنه عندما أنهى وصف القهوة أعلن تخليه عن الشرط، وقال (قد تنازلت لكم عن الجائزة وأعطر ختام قصيدتي بذكر الغانيات). ولم يرد أي حديث عن مرور فتاة في أثناء إلقائه الأبيات بغرض إيقاع الخسارة به للرهان من خلال إثارته واستفزاز قريحته للغزل. وهذه المناسبة التي دونت في كتاب نشر بعد وفاة القاضي بتسع وعشرين سنة فقط، وربما كان سمعها قبل النشر بفترة أيضاً، رواية مقبولة ولا تتنافى مع رفض تلك القصة السخيفة التي لا تتوافق مع أخلاق أهل عنيزة ولا مع أخلاق القاضي الشاعر المتدين المثقف الحكيم، وهذه الأوصاف ليست من كيسي بل تفصح عنها قصائده السائرة في الحكمة والأخلاق، وإذا كان اشتهر عنه قول الغزل في شبابه فليس بغريب لأن الغزل هو الغرض الوحيد الذي يأتي بلا مناسبة، وهو مجال التعبير عن المشاعر الفطرية، وكل غزل القاضي غزل عفيف.