محمد أبا الخيل
منذ أزل التارخ والأمم تتصارع فيما بينها حول النفوذ والموارد واستغلال الناس وجبرهم على ما يكرهون، كان المبرر المنطقي لغزوات الأباطرة والملوك بعضهم بعضا، هو التوسع وبناء أمجاد على أمجاد مهزومة، وفي العصور الحديثة وبعدما أصبح السلم والعلاقات بين الأمم أكثر تحقيقاً للمصالح من الحروب وأقل مخاطر في فقدان تلك المكاسب، وبات الاقتصاد البيني بين الدول هو ما تسعى كل دولة لتعزيزه وتطويره انتهت تلك الصراعات التي كانت تعصف بالأمم، ولكن قبل أن ينتهي العالم لهذه الحقيقة الدامغة استولى على العالم صراع أيديولوجي بين معسكرين عظيمين في العالم، الأول كان يرى أن اقتصاد السوق وتحرير القيود هو السبيل لبناء اقتصاد كوني يضمن السلم العالمي ويطور القدرات البشرية لبناء عالم متحضر متعاون، والمعسكر الثاني كان يرى أن اقتصاد التوزيع العادل للموارد والفرص من خلال سيادة الملكية العامة للدولة هو السبيل لتحقيق السعادة ولن يتحقق ذلك دون تحول كل أمم العالم إلى النظام الشيوعي، لذا اشتعلت بين المعسكرين حرب بارة في مجملها، ولكنها كانت ساخنة في بؤر أخرى ككوريا وأمريكا الجنوبية وفيتنام وأفغانستان والبلقان، هذه الحرب الباردة كانت أدواتها التجسس والمؤامرات والاغتيالات والدسائس والمواجهات العسكرية أحياناً وعلى نطاقات محدودة. ولكن تلك الحرب الباردة أصبحت علاقات باردة وبات التجاذب بين روسيا وأمريكا وأحلافهما في أقل ما تستلزمه الإستراتيجيات السياسية لحفظ وحماية المصالح.
المنطقة العربية لم تخلو بعد تحقق السيادة لمعظم دولها من التجاذبات التي انفلت زمامها أحياناً وكانت جزءا من التجاذب الدولي بين المعسكرين العالميين وأحياناً صراعات حدودية أو نخوة قبلية انتصار لحاكم دون غيره، وغير ذلك لم يكن سوى انقلابات عسكرية أو حركات انفصالية أو مؤامرات مدفوعة بقوى خارجية، ومع ذلك تظهر حديثاً، دولة صغيرة هي (قطر) كعامل مشترك في كل انقلاب أو مؤامرة أو حركة انفصال أو عصيان مدني، تمول وتخطط وتنسق وتمد بالسلاح وتكفل تغطية إعلامية من خلال قنوات الجزيرة لكل حدث يقلق الأمن العربي وكأنها تريده أن يشتعل أكثر، ويحق لكل من يتساءل، لماذا تفعل ذلك قطر؟ وهل هذا نابع من مقتضيات إستراتيجية إيديولوجية أو جيوسياسية أو هو مجرد لعب بالنار لجذب الاهتمام والانشغال بذلك.
الدستور القطري الجديد يقول في مادته الأولى «إن الحكم في قطر ديموقراطي»، ويقول في المادة السادسة «إن الدولة تحترم المواثيق أو المعاهدات الدولية»، ويقول في المادة السابعة «إن السياسة الخارجية لقطر تقوم على تشجيع فض المنازعات الدولية بالطرق السلمية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول»، ويقول في المادة الثامنة «إن الحكم محصور في ورثة حمد بن خليفة آل ثاني»، ويقول في المادة التاسعة والخمسون «إن الشعب مصدر السلطات» - الدستور القطري مشحون بالمتناقضات، وهذا المقال ليس لنقاش ذلك -، وتعرف قطر في المنتديات الدولية بأنها إمارة ذات حكم شمولي وراثي، ليس لها أي توجهات أيدولوجية تستهدف نشرها في محيطها, كما أن قطر في تعدادها السكاني البالغ (1,8) مليون ليست عمقاً إستراتيجياً يعتمد عليه في بناء أحلاف حماية مصالح وسياسات، ولا تختلف قطر من حيث التركيبة الديموغرافية عن محيطها في الخليج والمملكة العربية السعودية لكي تستشعر مخاطر تأثيرية أو ضغوط على بيئتها الديموغرافية، ولا تواجه قطر أطماع من جيرانها العرب في مواردها أو أراضيها. وليس لقطر الحكومة توجهات عروبية وحدوية أو تاريخ سياسي عريق بذلك.
فإذا كانت قطر ودستورها وحالها على هذه الصفة، فليس هناك مبرر عقلي ولا أخلاقي على قيام قطر في استقطاب الهاربين من جماعة الإخوان المسلمين من بلادهم نتيجة أحكام قضائية وتوفير منصات سياسية وإعلامية ومالية تمثل منابر ينازعون من خلالها بلدانهم, ولا مبرر عقلي ولا أخلاقي للتدخل بين فصائل المقاومة الفلسطينية ودعم الخلافات والنفور بينهم، ولا مبرر منطقي للتدخل العسكري المباشر في ليبيا دون طلب من الحكومة الشرعية ومناصرة فئة على أخرى، وليس هناك مبرر أخلاقي على إثارة النزاعات والقلاقل والتآمر في دول خليجية جارة قطر, وإنشاء وتمويل عمليات إرهابية، والسعي لجلب قوى أجنبية تهدد الأمن الإقليمي من خلال أحلاف ومعاهدات تيسيرية.
المجال يطول لسرد مؤامرات ودسائس قطر للدول العربية بصفة عامة ودول الخليج العربي بصفة خاصة وهذا المقال لا يتسع لذلك، ولكن في الختام يحق لنا أن نتساءل «ماذا بعد هذا يا قطر ؟» هل علينا أن ننتظر المزيد من الضرر أم علينا أن نقول «بلغ السيل الزبى»، فلا مجال لقبول مخادعات أخرى جديدة واحتمال مراوغات كلامية بعدما خرقت قطر كل اتفاق وكل عهد وأصبحت تناجز بالعداوة والتعدي، هل ننتظر مؤامرات أخرى ودسائس وخيانات وأكاذيب حتى يقع الفأس في الرأس.
أقول لحكومة قطر «أفيقوا لرشدكم فالخيار واضح والقدرة أكبر والحِلم لا يدوم مع الخديعة»، وليس لي في هذا المقال أن أقول أكثر من هذا.