اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
من المعروف أن المملكة لها ثوابت دينية وقيم اجتماعية لا يمكن المساومة عليها أو التخلي عنها مهما كلف هذا الأمر من تكاليف، وما تعانيه المملكة من غدر الأقربين ومكر أعداء الدين يزيدها تصميماًَ على التمسك بهذه الثوابت، بوصف الانتماء الديني هو سيد الانتماءات والمحرك الأول لجميع الولاءات.
والأمة التي تتخذ القرآن دستوراً وتطبق الشريعة منهجاً في زمن يتكالب فيه أعداء الدين عليها ويوصم دينها بالتطرف والإرهاب لا مناص أمام هذه الأمة من أن تعمل ما بوسعها لكي يتضافر خطابها الديني مع خطابها السياسي بما يحفظ عقيدتها الدينية وأمنها الوطني، وينأى بها عن الفتن ويدرأ عنها المخاطر والمحن، مدركة تمام الإدراك أن من فعل الخير اتقاء الشر، الأمر الذي يتطلب منها التوفيق بين موجبات الإقدام ودواعي الإحجام مع انتهاج سياسة داخلية تحرص من خلالها على تكريس الأمن الاجتماعي والاستقرار الداخلي على نحو يخدم السياسات الخارجية ويعزز الأمن الوطني بأبعاده المختلفة.
والتكيف مع المتغيرات ومسايرة روح العصر أمر لا يقل أهمية عن أهمية المحافظة على الثوابت، إذ إن ما لا يتطور يندثر، والانطلاق من هذه الثوابت والربط بين الأصالة والمعاصرة يعتبر ذلك ضرورة حتمية لاستقرار الدولة واستمرارها وازدهارها.
والمملكة ترفض التطرف والتعصب الممقوت وتنظر إلى التسامح الديني بأنه قيمة من قيم الإسلام، وهو أساس التسامح الاجتماعي والحضاري، والدعوة إليه تزخر بها نصوص الرسالة المحمدية الخالدة، وهذا التسامح لا يلغي الولاء للحقوق والتمسك بها، كما لا يقبل التساهل فيها، حيث إن الحقوق الدينية والوطنية والاجتماعية ذات طابع مقدس، لا يجوز التفريط فيها، بل إن التساهل تجاهها يعتبر ضرباً من الاستكانة ونوعاً من الخيانة التي تستوجب العقوبة.
والأخذ بالوسطية والاعتدال من الثوابت التي حض عليها الإسلام بعيداً عن الإفراط والغلو أو التفريط والتقصير، والمملكة في خطابها الديني الرسمي وخطابها السياسي دأبت على الالتزام بالنهج الوسطي والمتزن المبني على الفهم الصحيح للإسلام الذي ينبذ الكراهية والتحريض وتجاوز الحد أو التقصير عن هذا الحد، واعتماد هذا النهج السوي جعلها هدفاً لأصحاب المكائد وأرباب الفكر الفاسد الذين استهدفوها تارة بالغدر والخيانة من الأقربين، وتارة بالمكر من أعداء الدين، وتارة بالتطرف والإرهاب من المرتزقة والمأجورين.
والنهج الإسلامي الوسطي الصحيح أبعد ما يكون عن النهج الإخواني الشبيه إلى حدٍ ما بالتشيع السياسي كما يبتعد أيضا عن النهج الليبرالي المنفلت الذي يخرج عن ضوابط الدين متحللاً عن حدوده وقيوده ومقدسا حرية الفرد على حساب حرية وحقوق المجتمع.
وثوابت المملكة والدور الإيجابي الذي تضطلع به تجاه أزمات المنطقة دفع الصفوية والصهيونية ومن يقف خلفهما من قوى الشر ويدور في داخل دائرتهم من المحسوبين على أهل السنة إلى استهداف الإسلام السني ونسبة الإرهاب إلى السلفية ومحاولات الإساءة إلى المملكة بوصفها تمثل المعقل السني الأول وتتزعم تجمع دول مجلس التعاون الخليجي الذي يعتبر أنجح تجمع عربي، كما أن المملكة لها تأثير قوي في عمقها العربي ومحيطها الإسلامي، والأزمة التي تمر بها دول مجلس التعاون ما هي إلا مرحلة من مراحل هذا المخطط الذي يحاول أصحابه إلحاق منطقة الخليج بركب ما يعرف بالربيع العربي، مستخدمين النظام القطري بطريقة أكثر إيلاماً لما لهذه الأزمة من تداعيات ضارة على المنطقة الخليجية والعربية والإسلام السني عموماً.
وموقف المملكة تجاه النظام القطري هو موقف تراكمي لم يبق معه في قوس الصبر منزع ولا إلى غير اتخاذ الإجراءات القاسية مفزع، حيث بلغ السيل الزبى وطفح الكيل بسبب الممارسات المتقادمة والمتراكمة للنظام الحاكم في قطر الذي اصطدمت عنده عقدة الواقع الموجود بالبحث عن وهم مفقود، متجاوزة طموحات هذا النظام حدود إمكاناته إلى الحد الذي جعله يذهب بعيدا وراء سراب الأمنيات الكاذبة، باحثا عن مكانة لا يستحقها، ومسيئاً العمل عن طريق اللهث وراء كاذب الأمل.
ومن أسوأ الأمور أن يأتي المكروه من حيث يُرجى المحبوب والذي ترجو منه المناصرة والمؤازرة يطعنك في الظهر ويصبح شوكة في خصرك وسهماً يطلقه الأعداء نحوك كما هو الحال بالنسبة لدولة قطر وسلوكها تجاه المملكة ودول مجلس التعاون، حيث أصبحت مثل الابن العاق الذي إن عاش نغَّص والده وإن مات نقصه ومثل العضو الفاسد إن تُرك آلم وإن قطع آلم.
ومحاربة الإرهاب والأزمات التي تعصف بالمنطقة وضعت ثوابت المملكة في المعترك والمحافظة عليها تحت المحك، إذ إن احتضان المملكة للحرمين الشريفين ومكانتها الدينية والتاريخية وموقعها الجغرافي ووزنها الاقتصادي وثقلها السياسي ودورها القيادي، كل هذه العوامل تحتم عليها الاضطلاع بمسؤولياتها تجاه الإسلام السني الذي دفع به النظام القطري إلى مستقبل مجهول ينذر بالفرقة والتشرذم.
وقَدَر المملكة وقدْرها لا يسمحان لها بالابتعاد عن انتمائها الديني والقومي وإنما يفرض عليها ذلك التعامل مع الجميع من موقع القيادة التي تحرص على التفاف المقودين حولها لمواجهة العدو الأزلي الأبدي المتمثل في الصفوية الفارسية والصهيونية اليهودية.
وقد نجحت السياسة السعودية إلى حد ما في تجسيد هذه الثوابت في حين فشل الإعلام في إيصال ما هو مطلوب ومواكبة السياسة لجنوحه إلى الخط اللبرالي بعيداً عن الدين وهذا هو موضوع المقالة التالية.