د. حسن بن فهد الهويمل
سمعت بكتاب متداول، لأحد المهتمين بالشأن السياسي. تحت عنوان:- [الأمة أولا]. وحين وجدته، تبين لي أنه كتاب صغير، يعتمد على النصوص، ويركن إلى المقاصد.
ومن قَبلي اتخذ [منيف] عتبة القراءة [الديمقراطية أوّلا.. والديمقراطيّة دائمًا].
و[الأمة]، و[الوطن] وجهان لعملة واحدة، وبخاصة حين لا يُسْتزل الإنسان بالمفهوم [الأمَمِي].
وكم كان بودي لو استطاع العالم الإسلامي تحقيق نظرية [الخلافة الإسلامية]، كما هي في عصر الراشدين، والأمويين، وسائر عصور الفتوح، والتشكل الحضاري.
ولكن هذه الأحلام الطوباوية من المستحيلات، في ظل النظام العالمي، القائم على أساس القطرية، والمنظمات، والهيئات، والمجالس العالمية.
وهذا ليس من باب القنوط، ولا التيئيس، ولا من باب التألي على الله. ولكنه واقعٌ لاينكره إلا منكرٌ للسنن الكونية، سنن التداول، والتدافع.
وضعف الأمة حقيقة لا مراء فيها. والله وضع كافة الضوابط لزمن الضعف {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا… الآية}.
والعاطفيون يفرطون بمكتسبات أمتهم، ويعجلون بفائها، ولا يحققون شيئًا من تطلعاتهم الحزبية، أو الطائفية.
أظن أنني بهذه المقدمة قاربت التحديد لمفهوم [الوطن]، و[الأمة]. وتخلصت من استدراج السمَّاعين، الملقين بأنفسهم، وبأمتهم إلى التهلكة.
بعض أولئك يَنْساقون وراء الضَّخِّ الإعلامي الموجه. وما علموا أن اللعب السياسية تجري في المفاصل مجرى الدم.
ولو أن أحدًا من أولئك التائهين في مفازات السياسة، استعاد قراءة الخطابات الثاوية في صفحات التاريخ الحديث، لاستبعد العاطفة الجياشة، والاهتياج الأعزل، واستحضر العقل المعرفي المجرِّب.
لقد أغرتنا [القومية]، و[الاشتراكية]، و[البعثية]، و[الإخوانية] وسائر الخطابات المتناحرة، لصالح اللاعب الأكبر.
وفي هذه الدوامة تذبذب [الإنسان العربي] في ولاءاته بين شرقية ماركسية، وغربية رأسمالية، وعلمانية أوروبية، وحزبية طائفية، وإخوانية حركية، على تفاوت بين الدرجات، والدركات.
وحين أكون في دولة تتحفظ على بعض ذلك، وتقيم كيانها على إسلام، وسطي، مستنير، تمارسه على أرض الواقع. تدعو إليه، ولا تُصَدِّره بالقوة، يكون من واجبي الالتزام بمقتضياته، ومحققاته، وموالاة من يوالي، ومعاداة من يعادي.
فذلك كله من محققات [البيعة الشرعية]، التي يدين بها المسلم، ومن محققات الوطن أولا، ودائمًا.
ومن استخف بشيء من ذلك، أخل بالبيعة، وفارق الجماعة، ولم يكن الوطن عنده أولا.
أحَبِّر ما تقرؤون، مُنْطَلِقًا من الفكر السياسي الإسلامي، وفق رؤيتي الشخصية، التي أثق أنها منجاة، وأتحمل كافة تبعاتها اليوم، و{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}.
وحين تشتبه عليَّ الأمور، اسْتَفْتِ عقلي المعرفي، المجرِّب، وأعود إلى قطعيات النصوص التشريعية، وأطَّرِح رواسب اللعب، واهتياج العواطف، والولاءات الحزبية، والطائفية، والزعمات الزائفة.
بعض الدول بارعة في المخادعة، والمزايدة على الإسلام، واستغلال التناقضات، ظنًا منها أنها بهذه المغالطات، تحمل المتلقي على الانصياع لها.
لقد ساءني كأي مواطن عربي واقعُ أمتنا العربية، وتشرذم أفكارها، قبل أقطارها، وتأثير الإعلام الموجَّه على رؤية البله من أبنائها. ومن أراد استجلاء الواقع المتشرذم، فعليه إلقاء السمع، وهو شهيد لكل اللغط الذي يدور في الأوساط الإعلامية، ليرى واقعًا مغثيًا، لا يمكن احتماله.
ويقيني أن مقتضى قوله تعالى:- {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}. قائم بكل مقتضياته.
وإذ يكون الإصلاح عاصمًا من العذاب، على حد:- {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى? بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}. فإن على المقتدرين أن يتقوا الله، ويصبروا، وينهضوا بالإصلاح على مختلف وجوهه.
وهذا لا يتعارض مع قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى? عَلَيْكُمْ}.
وبُعْدًا للمغالط، والمحرف للكلم من بعد مواضعه، والمسيء الظن بالمدافع عن عشيرته، والداعي لتوحيد الصف، والهدف، ومساندة الدولة المُمَارسة لحقها المشروع في مواجهة الاعتداء عليها بالقول، أو بالفعل، أو بهما.
ومن تصور أن ما يجري من تصدعات لعب سياسية، فعليه أن يعرف أن أمنه، واستقراره، وسيادة دولته، أولا. وأن سكوت القادر فرار من الزحف.
وفي ظل هذه الظروف العصيبة، لا مجال للمزايدة. حول الممانعة، والمقاومة، والإسلام السلفي الصحيح.
المملكة العربية السعودية دولة إسلامية، وإن اختلفت مع من يستدرون عواطف الغوغاء. وهي دولة مقاومة. ودولة ممانعة.
وهي بهذا كله تدفع الثمن من مالها، ومن استقرارها، وعلى حساب الكثير من مصالحها.
ومن المغالطات المكشوفة تعمُّد المزايدة على مواقفها من القضية الكبرى [قضية فلسطين]. لمجرد أنها تتحفظ على تصدع اللحمة الفلسطينية. وتقدِّر، وتدبر، وتتكتم.
إنها دولة ممانعة، لأنها لم تدنس يدها بمصافحة عدوها.
ودولة مقاومة، لأنها لم تدنس أرضها باستضافة عدوها.
ودولة مواقف، لأنها لم تدنس سمعتها بالحوار مع أي طرف مغتصب.
ومواقفها واضحة، تؤيد الشرعية، وترفض الانشقاق، وتؤيد المقاومة، ولا تقبل المغامرة على حساب المستضعفين، وتتمثل الإسلام، ولا تمتطيه لمصالحها الآنية.
وكل [حزب] انشق على دولته، واستجدى عدو أمته، فهو عدو. رضي من رضي، وسخط من سخط.
[الوطن أولا]، ولا مزايدة على مثمناته، ومقدساته، وتأييد قادته في قراراتهم السيادية، ومواقفهم الشريفة.
فالوطن بمقدساته، وسلفيته، وأمنه، واستقراره، ومؤسساته الأمنية، والدفاعية، والرقابية، والدعوية، والتعبدية. أولٌ، وما دون ذلك في المكان الثاني.
الحياد، والصمت، والهمز، واللمز، والافتراء. مؤشرات تردد، وريبة.
ومع بُدُوُّ السوءات، لا نتهم أحدا بعينه، ولا نستعدي على أحد بعينه. ولكننا لا نتردد في حفظ مواقفنا، وصد المعتدي.
وعتبنا -إن كنا من المستعتبين- على فلتات الألسن، والتشكيك في قرارات الوطن السيادية، ومواقفه الحازمة.
وإذ لا نستعدي على أحد: أفرادًا كانوا، أو منظمات، أو أحزابا، فإننا في الوقت نفسه لا نسمح لأحد من أولئك أن يركن إلى أعدائنا، ولا أن يزايد على مواقفنا.
ومن بغى علينا فمن حقنا اتخاذ الموقف المرحلي المناسب لكف أذاه، وتعرية نواياه.
والله سبحانه وتعالى ندب إلى ذلك بقوله: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا... الآية}.
المزايدون، والمحايدون، واللائذون بالصمت - في الداخل، والخارج - مخدوعون، ومغرر بهم.
وقرار الدولة قرار سيادي، ومن تصوره على غير ذلك، فعليه لزوم الجماعة، لأن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
اللهم إن هذا معتقدي الذي أعتقده، بمحض إرادتي، لم اُلْزَم به، ولم يشتر القول مني.
وحين لا أقول كل الحقائق لكثرتها، وجهلي ببعضها، فإنني حين أقول لا أقول إلا الحقيقة.
وحين لا أُسْألُ عن صمت، ولا أُلْزَمُ بقول، فإن هذا منتهى الحرية، والعدل، والكرامة.
وموعد الظانين بي ظن السوء {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}.