د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
تتغير المجتمعات باستمرار، ومعها تتغير التوازنات الاقتصادية والسياسية للدول، ولذا تحرص الحكومات على سبر هذه التغيرات لإبقاء علاقات الثقة بالشعوب في أفضل حالاتها من الثقة والرضى بما ينعكس إيجابياً على مسيرة النمو والتنمية. وفي المجمعات الغربية تتم دراسة التغيرات بشكل دوري وتقدم على شكل تقارير ووثائق. والاطلاع على هذه التقارير يمكن فهم هذه المجتمعات وتوجهات الرأي العام فيها مما يسهل التعامل معها، وكذلك توقع التغيرات فيها مثل ظهور المد الشعبوي حديثاً، وفوز رئيس كدونالد كترمب برئاسة القوة العظمى في العالم، أو صعود بعض الأحزاب اليمينية في دول أوربا وفوزها بمقاعد مؤثرة في البرلمانات.
الدراسات في المجتمعات الغربية متواصلة، وتكثفت بعد الستينات والسبعينات من القرن المضي أثناء وبعد حرب فيتنام، حيث مرت المجتمعات الغربية الديمقراطية بحالات غير مسبوقة من الاضطرابات؛ مظاهرات في فرنسا 1968م، احتجاجات على حرب فيتنام في أمريكا، وأخرى عمالية في بريطانيا. إثر ذلك، شكل ديفيد روكيفيلر لجنة في عام 1975 م سميت «لجنة الأقطاب الثلاثة»: أمريكا، وأوربا، واليابان، الدول المركزية في الديمقراطيات الغربية، لدراسة ما سمي «بأزمات الديمقراطية». اللجنة ترأسها زيبغنيو بريجنسكي، ومن أعضائها صامويل هنتجتون، وميشيل كروازييه أستاذ علم الاجتماع الفرنسي، والبرفيسور الياباني جوجي واتانوكي المتخصص في ثقافة اليابان فيما بعد الحرب. وأصدرت اللجنة تقريراً تتم من ذلك الوقت مراجعته دورياً من قبل علماء لاحقين ولجان مماثلة حتى أيامنا هذه. أعيد تقييم الدراسة، على سبيل المثال، بشكل كامل في عام 1995م لمعرفة آثار سقوط جدار برلين على مسيرة المجتمعات الغربية، وفي السنوات الأخيرة لدراسة مؤشرات رضى وثقة الشعوب في الحكومات بمساعدة الوسائل الرقمية.
وقد صدم خبراء السياسة وعلماء الاجتماع في الغرب لعدم انعكاس الانتصارات التي حققها العالم الرأسمالي الليبرالي، ونجاحه عولمة الاقتصاد إيجابياً على زيادة رضى وثقة هذا المجتمعات في حكوماتها، على عكس ما بشر به دارسون من أمثال فرانسيس فوكوياما على أنه انتصار أبدي للرأسمالية. وكانت حكومات محافظة آنذاك في هذه الدول، ريجان، وتاتشر، وكول، وزينو سيزوكي، قد تبنت سياسات مبنية على مثل هذا التفاؤل المفرط، فخففت الأنظمة، وخصخصت الخدمات، وخففت الضرائب، وتركت الاقتصاد ينظم نفسه بنفسه. لكن ذلك أدى إلى آثار جانبية منها تركز الثروات في أيدي قليلة، ونقل الشركات لمصانعها للخارج فتدنى التحصيل الضريبي ومعه الصحة والتعليم. وتراجعت هذه الاقتصادات أمام الاقتصادات التي تدار بشكل أكثر مركزية مثل كوريا والصين.
ويركز الباحثون اليوم على التحولات الاجتماعية الأخرى التي طرأت على المجتمعات الغربية نتيجة التقدم العلمي المتسارع الذي لا دخل للسياسات الحكومية فيها، وعلى وجه الخصوص التحول السريع إلى المجتمعات الرقمية. التقدم العلمي الكبير برز في مجالات الإنترنت، وظهور الكومبيوترات الضخمة (سوبر كمبيوترز)، وتقدم تقنيات الإنسان الآلي (روبوتكس). وغيرت هذه التطورات المجتمعات بشكل كبير ومتسارع لم تستطع التنظيمات السياسية والاقتصادية مواكبته مما شكل صداعاً جديداً مزمناً للنظم الديمقراطية. فظهرت على سبيل المثال شركات معلوماتية ضخمة جداً في حجمها الاقتصادي ضئيلة في حجم العمالة التي توظفها. وأصبح نقل الأموال وتحريكها حول العالم أسهل بكثير من عملية مراقبة تحركها مما سهل ظهور أزمات مالية عالمية ضخمة كأزمة عام 2008م.
والأهم من هذا وذاك تعمق الفردية بشكل لم يكن متوقعاً اعتماداً على تطورالأجهزة الذكية، وتزايد الخدمات الرقمية المتاحة، وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي ودخولها منافسةً للإعلام التقليدي والرسمي. فالأخبار والمعلومات عما يحدث في المجتمع مثل الجرائم، والفساد السياسي والاقتصادي، والإشاعات تصل الأفراد بشكل فوري وبشكل مبالغ فيه أحيانا مما فاقم الانفصام بين الشعوب الغربية وحكوماتها. وعكف علماء الاجتماع والسياسة على تفسير هذا التناقض العجيب في مجتمعات اليوم الرقمية، حيث صاحبت زيادة الرفاه بشكل غير مسبوق صاحبته حالات من التململ وعدم الرضى، ففُقدت الثقة تقريبا في الأحزاب السياسية التقليدية، وتحول المواطنون عن السياسات الوسطية المعهودة إلى دعم شخصيات هامشية شعبوية استندت في صعودها على وسائل التواصل الاجتماعي. حتى في اليابان المعروفة بإخلاص المواطنين لقادتها انخفضت شعبية السياسيين إلى درجة غير معهودة منذ سنوات ما بعد الحرب العالمية. واسُتقطب حديثاً مجموعة كبيرة من أبرز أساتذة السياسة والاجتماع لدراسة هذه الظاهرة وأصدروا كتاباً مهماً يحمل عنوان «تصدع الديمقراطيات» لفهم هذه التطورات المتسارعة في العالم.