د.عبد الرحمن الحبيب
بمجرد سماع أنه قد يُسمح لشركة مونسانتو بمزاولة أعمالها في المملكة، طفقت الحكايات المحلية عنها شذر مذر، مطلقين عليها لقب «الشركة الشيطانة» استعارة من تعديل طفيف لاسم الشركة بالإنجليزية (مونساتان) أي الشيطان الذي يطلقه الناشطون الغربيون المعارضون للأغذية المعدّلة وراثياً.
ورغم أنّ الإجراءات النظامية لم تستكمل بعد، والهيئة العامة للاستثمار أوضحت أنه لن يسمح للشركة بالعمل إلا بعد موافقة الجهات المختصة واشتراطاتها، لكن الهيجان في وسائل الاتصال الاجتماعي اشتعل ضد الشركة بروايات تتهمها بإنتاج كيماويات مسببة للسرطان؛ واحتكار إنتاج البذور فهي أكبر شركة عالمية لإنتاج البذور المعدلة وراثياً، تزدهر اقتصادياً على حساب الدول النامية وجيوب الفقراء، مدمرة المجتمعات الريفية، بل سببت جينات محاصيلها انتحار مزارعين، فضلاً عن خطورة منتجاتها الغذائية على صحة البشر..
فما صحة تلك الروايات المرعبة؟ بحكم قرب تخصصي العلمي لهذا المجال، وبالاطلاع على أساس تلك الروايات، فالنتيجة التي وصلت لها أن ما يشاع عن هذه الشركة فيه مبالغة وخلط المخاطر البيئية بالمحاذير الصحية ودمجها مع الخسائر الاقتصادية للمزارعين والإشاعات الاجتماعية، تحت مظلة المواقف السياسية «الإيديولوجية» للناشطين البيئيين.
الخلط الأكبر هو الهجوم على مونسانتو كشركة تجارية من خلال الهجوم على فكرة إنتاج البذور المعدلة وراثياً. لكن النقاش العلمي لم يستقر حول مدى خطر هذه البذور، فهي مجازة بأمريكا ودول كثيرة وفق اشتراطات معينة. أما في دول الاتحاد الأوربي فبعد جدل ونقاش ومنع، سُمح مؤخراً لكل دولة اتخاذ القرار الذي يناسبها من تقييد أو حظر استخدامها. المطروح نوعان من المخاطر المحتملة: بيئية وصحية، تستوجب أخذ الحيطة والحذر من هذه المحاصيل التي لها صفات زراعية مرغوبة مثل مقاومتها آفات معينة أو ظروف بيئية قاسية كالجفاف.
ورغم أن أغلب الوقائع التي ينقلها معارضو تلك الشركة صحيحة، إلا أنها تُحوّر لسياق غير سياقها الموضوعي بل تُخلط مع سياقات أخرى، ومن ثم تأويلها وفقاً لنظرية المؤامرة. ومن ذلك ما حصل لها من إدانة قضائية في مكب نفاياتها بأمريكا في ستينات القرن المنصرم كان عن جهل بخطورة تلك الكيماويات نتيجة ضعف الوعي آنذاك. ومن أمثلة الخلط بين السياسي والتجاري هو استخدام الجيش الأمريكي لمبيد حشائش تنتجه مونسانتو في حرب فيتنام الذي كان يقضي على النباتات الطويلة ويكشف للجيش الأمريكي مخابئ المحاربين الفيتناميين، ونتائجه الصحية المدمرة على السكان. لكن اللوم يقع على من؟ على الجيش الأمريكي أم شركة تجارية تبيع مبيد حشائش مسموحا باستخدامه عالمياً، بما فيه أمريكا؟
ومن أمثلة الخلط بين البيئي والتجاري، هو أن مونسانتو أنتجت بذور محاصيل معدلة وراثياً مستخدمة ما يطلق عليه الجين «الإنهائي» الذي يمنع إنتاج بذور خصبة للمحصول، وعلى المزارعين شراء بذور جديدة كل موسم، بدلاً من تخصيص جزء من حصادهم كبذور للموسم المقبل. السبب لاستخدام هذا الجين هو أن أهم خطر تشكله النباتات المعدلة وراثياً على النظام البيئي، يتمثل في احتمال انتقال الجينات المعدلة إلى النباتات البرية. مثلاً، إذا اكتسب نبات بري جينا مقاوما لحشرة كالخنفساء، فقد يؤدي لتناقص هذه الحشرة في بيئتها الطبيعية، ومن ثم تناقص الحيوانات المتغذية على الخنفساء وتزايد هذا النبات وتخريب السلسلة الغذائية البرية، مما يفضي بنهاية المطاف لتخريب النظام البيئي في ذلك الموقع. هنا يكون الجين «الإنهائي» حلاً لهذه المشكلة المتوقعة، رغم أن الشركة قد تستغله لمآرب أخرى. هذا الحل طالبت به عدة جهات خاصة في أوربا.
لكن الجين «الإنهائي» أدى لمظاهرات غاضبة من مزارعي القطن بالهند، مع سبب آخر مهم وهو فشل القطن المعدل وراثياً في إنتاج محصول وافر رغم أثمانه الباهظة على المزارعين الهنود. هذا الفشل أدى لمظاهرات واضطرابات واسعة وانتحار مزارعين في ولاية اندرا براديش بالهند. لذا، أصدرت حكومة الولاية، عام 2005، قراراً بمنع مونسانتو من تسويق سلالات القطن بسبب ضعف الغلة.. ثم صدر قرار وزير الزراعة بحظر بيع بذور القطن ما لم تُخفض مونسانتو سعر البذور للمزارعين المديونين؛ لكن هذا الحظر رفع لاحقاً. القصة لم تنته هنا، بل تم اتهام الشركة عام 2006 بأنّ جينات قطنها المعدل وراثياً كان سبباً في انتحار مزارعين هنود! لكن البحث الذي أجراه المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية لم يجد أي دليل يدعم ذلك. ومنذ عام 2009 تمت زراعة هذا المحصول في أغلب أراضي زراعة القطن الهندي.
الخلاصة هي احتمالية خطر الأغذية المعدلة وراثياً على النظام البيئي مثلما أشرنا بالمثال السابق، أما الخطر الصحي فهو احتمال أقل مثل التخوف من انتقال جين من نبات لنبات آخر قد يكون له أثر أمراض حساسية لدى بعض المستهلكين. كلها احتمالات لم يثبت علمياً خطرها، لكن أيضاً لم يثبت علمياً سلامتها؛ فالموضوع لم يحسم علميا. أما مونسانتو فهي شركة رأسمالية ضخمة لها أخطاؤها الجسيمة التي ينبغي أخذ الحيطة منها، لكن ينبغي أخذها وفق سياقها الموضوعي.. فالموضوع بذاته مثير للجدل العلمي، لكن لا يخلط مع مواضيع أخرى أو المبالغة فيها والشطح في تأويلاتها..