لبنى الخميس
في عالم يمتلئ بالمسحورين بجمال وجودة الآلات من حولنا من الأجهزة الالكترونية إلى مكائن السيارات، أجد نفسي مسحورة بالعقل الذي صنعها ومدمنة على تحليل ذكائه وثقافته ودوافعه، من مجتمعه الكبير الى بيئة الشركة التي يعمل فيها الى سماته الشخصية.. ابتداء من مشروب كوكاكولا الى أحذية نايكي إلى سيارات مرسيدس وصولاً إلى شركة أبل.
وأخيراً وجدت كتابا يروي تفاصيل مخيفة وغارقة في أعماق ثقافة شركة أبل بعنوان «أبل من الداخل».. التي لا يخلو بيت من إحدى منتجاتها من آي فون إلى آي باد إلى آي ماك أشارككم بعضاً مما جاء فيه من أسرار ثقافة الشركة.
القيادة «الجوبزية»
قد يكون ستيف جوبز من أكثر القادة الذين يتمتعون بالكاريزما في القرن الواحد والعشرين، لكن ما لا يعرفه الكثيرون هو الجانب المعتم من شخصيته القاسية والنرجسية. ابحث في محرك غوغل عن كلمتي ستيف جويز ونذل وستجد أكثر من 89 ألفا و400 إجابة مطابقة.. فجوبز قدم أسلوباً جديداً في القيادة التي تهتم بالإنتاج ولا يهمها كسب مودة الآخرين. هذا النوع من القيادة امتد على كثير من قيم الشركة وأسلوب عملها الملفت للنظر. ففي وقت تتجه فيه الشركات إلى الشفافية وتمكين الموظفين انتهجت أبل السرية وحدت من هامش حرياتهم وصلاحياتهم، عبر تدخل القيادة في أبسط التفاصيل.. فستيف جوبز كان يبدي رأيه في أبسط الأمور من الفواصل والنقط في الإيميلات التي ترسل إلى العملاء وحتى المفاوضة الهاتفية على أسعار الشحنات بفوقية وغضب، لدرجة أن أسلوبه في إجراء المقابلات للمديرين التنفيذيين المحتملين كان يعتمد على الطعن بالمؤسسات التي كانوا يأتون منها.. لاختبار قدرتهم على مقاومة الضغط وتحمل ثقافة القسوة السائدة في أبل.
وبالرغم من كل العقد النرجسية وفظاظة الأسلوب، كان معظم الموظفين مسحورين بشخصية جوبز ويستشهدون بأقواله، ويعتبرون العمل عنده طيفا من أطياف الروحانية، ورغم أن كثيرا منهم لم يلتقوا به إلا أن حضوره كان طاغياً وبصمته كانت ملموسة في كل منتج وفكرة مجنونة قُدمت إلى العالم بشعار التفاحة الأنيق.
اششششش.. أنت في أبل!
من أكثر الفصول التي لفتتني في الكتاب هي فصل بعنوان «اعتناق عقيدة السرية».. فالسرية في أبل تتخذ شكلين أساسيين: سرية خارجية وسرية داخلية، الأولى طبيعية حين تتكتم الشركة على ابتكاراتها. أما السرية الداخلية فتتجسد في الجدران المغلقة والإجراءات الغامضة والمناطق المحظورة.. فالبيئة الفسيحة والمريحة لمقر الشركة في السيليكون فالي تناقض السرية المخيمة فيه.. لدرجة أن الذين يزورون الشركة سيصادفهم في محل الهدايا «تيشيرت» صممته الشركة على سبيل النكتة وطبعت عليه I visited Apple campus, but that›s all I›m allowed to say, زرت مقر شركة أبل وهذا كل ما يسمح لي بقوله!.
تبدأ ثقافة السرية للموظفين الجدد الذين بالرغم من تخطيهم جولات عديدة من المقابلات القاسية.. تحدد لهم مناصب وهمية ولا يشرح لهم بالتفصيل طبيعة عملهم إلا بعد انضمامهم فعلياً إلى الشركة، وبعد الانضمام للشركة بشكل رسمي يتلقون تعليمات أمنية مشددة تؤكد بأن من يكشف عن أسرار أبل سيتعرض للفصل الفوري وربما المقاضاة، في مرحلة تسمى «صمت الذعر».
ومن الأمور الغريبة أنه قبل إطلاق منتجات مثل الآي فون، يتم توزيع كتيب بعنوان «قوانين الطريق» مشفّر ويتناول كافة المراحل قبل الإطلاق. ويتضمن بندا قانونيا ينص بفصل من يشارك الكتيب مع أحد! فكثير من الأمور فائقة السرية لدرجة تتطلب إضافة أقفال خاصة وأبواب إضافية واتفاقيات خاصة، يقرون فيها بأنهم يعملون على مشروع فائق السرية ويتعهدون بعدم الحديث لزوجاتهم وأولادهم.
لا يهم إن كانت هذه الأقاويل صحيحة أو من نسج الخيال، فمجرد رواجها بين الموظفين ينشر ثقافة الخوف التي تحقق الهدف المطلوب. يقول ستيف بأنه تعلم ثقافة السرية من والت ديزني، الذي حافظ على سحر عالم ديزني ومنحه بريقا وخصوصية لا يمكن تفسيرها.
عبقرية التفاصيل
قد تكون مهمة التعليب بالنسبة لبعض الشركات مرحلة تافهة وبسيطة، لكن في ثقافة أبل السحر يكمن في الانتباه لكافة التفاصيل بما فيها علبة المنتجات، فخصصوا مصمماً يجلس أشهراً في غرف مليئة بالعلب، مهمته فتح العلبة مراراً وتكراراً لكي يعيش تجربة الزبائن في فتح العلبة لأول مرة. ابتكر المصمم سلسلة طويلة من الأسهم والألوان والأشرطة اللاصقة، حتى يصمم تجربة «فتح علبة» فريدة تتوج لحظة امتلاكك منتجا أنيقا مثل الآي فون.
ذُكر في الكتاب بأن الهوس بالتفاصيل وصل لمستويات روحية لدى شركة أبل وهذا ما تعلمه جوبز من الديانة البوذية التي تعرف عليها حين زار الهند، فمن تعاليم وآداب البوذية أنك إذا أردت احتساء الشاي يجب أن تمنح اهتمامك الكامل بإعداد الكوب.. وهذا ما ولّد ثقة ورابطا قويا بين الزبائن وشركة أبل.
قد تتفق مع أسلوب جوبز أو تختلف، لكن لا تستطيع تجاهل مدرسته الفريدة بالقيادة، التي أنتجت سيرة زاخرة بالإنجازات رغم قصر عمره ورحيله المبكر بسبب إصابته بالسرطان، ليؤكد أن قيمة الإنسان في الدنيا لا تقدر بعدد الأعوام التي عاشها، بل بعدد الإنجازات التي قدمها وغير من خلالها حياة البشرية.