كانت ظاهرة «الدخيل» قد برزت في شبه الجزيرة العربية خلال القرن الحادي عشر الهجري واختفت منذ مئات السنين، ولم يعد لها اليوم أي وجود بعد سن القوانين المنظمة لحياة الناس وفرض العقوبات وتطبيق الحدود الشرعية لكل من يخالف النظام أو يعتدي على حقوق الناس وأعراضهم وممتلكاتهم، مما يدل على أن تلك القوانين والأنظمة القضائية تعتبر مُدخِل الدخيل مُتسترا على شخص مطلوب للعدالة ومنحازا له. وبالتالي فإنه إن تم قبول حماية الدخيل في زمن القانون والنظام العام فإن الدخيل، أي الطريد من جرم ارتكبه، وكذلك المُدخِل أي المُجير الذي يقدم الحماية والدعم الكامل للدخيل سيخضع كل منهما إلى المسائلة والتحقيق وربما دخول السجن والمنع من مغادرة البلاد. فالدخيل سيُعاقب لاختفائه أو هروبه ثم لجوئه إلى شخص آخر، بينما سينظر القانون إلى المُدخِل باعتباره متسترا على إنسان هارب من يد العدالة.
وبالرغم من تشريع القوانين ونداءات تسليم الهاربين لأنفسهم مقابل تخفيف العقوبة عليهم، إلا أن فكرة الدخيل لا تزال تسيطر على عقل الإنسان الذي ارتكب للتو عملا وحشيا وتمكن من الهرب ثم توارى عن الأنظار خوفا من القبض عليه. وهي فكرة بديهية لكنها متسلطة في اللحظات الأولى من ارتكاب عمل يتعارض مع روح ونص النظام العام، حيث يرى علماء النفس أن المطلوب سيبذل قصارى جهده للتخفي والابتعاد عن مسرح الجريمة خوفا من سجنه وتطبيق النظام بحقه. وهو خوف طبيعي ومنطقي في طبيعة النفس البشرية التي تهاب الخطر وتبتعد عنه ما أمكنها ذلك. ومن هنا جاءت فكرة الدخيل لتكون هي الطريقة الأمثل لإنقاذ النفس من خطر يتربص بها. ومن هنا أيضا جاءت فكرة المحاماة في العصر الحديث للدفاع عن المتهم أو المطلوب للعدالة لتبرير الأعمال المرتكبة والتماس العذر لتخفيف العقوبة المنصوص عليها.
ولذلك، ومع مرور الأزمنة اندثر المصطلح «دخيل» كما ذكرت سابقا وطفا على السطح مصطلح جديد هو «لاجئ»، كما اندثر تبعا لذلك مفهوم «المُجير» وظهر بدلا منه مصطلح «محامي» اشتقاقا من المصدر حماية. فالتغير الذي حدث لأصل الكلمة «دخيل» لا يشمل المعنى الدقيق لمفهوم الكلمة، إذ إن مصطلح «لاجئ» يشير إلى طلب الحماية من نظام دولة أو حكومة في حين مصطلح «دخيل» يشير إلى طلب الحماية من شخصية ذات مكانة اجتماعية تحظى باحترام أدبي واسع النطاق. وفي حين كان يشير مصطلح «المُدخِل» إلى تقديم الحماية الكاملة للدخيل بكل الوسائل المتاحة، إلا أن مصطلح «المحامي» لا يعكس لنا مفهوم «المُجير أو المُدخل»، بنفس قوة المعنى الذي كان سائدا في الزمن الماضي. ذلك أن مهمة المحامي تنحصر فقط في المرافعة وتجميع الأدلة لإثبات البراءة أو لطلب العفو وتخفيف العقوبة، دون أن يكون مكلفا بتقديم الحماية الكاملة كما كان دارجا ومتبعا من قبل المجيرين أو المدخلين في عصر ما قبل ظهور وتشريع الأنظمة والقوانين المدنية الحديثة.
وفي هذا الزمن, وبما أن كثيرا من المعارضين أو المطلوبين للعدالة لا زالوا أحرارا طلقاء أو في ضيافة وحماية دول أخرى يسمح نظامها بمنحهم حق اللجوء السياسي, ولا يستطيعون مغادرة هذه الدول خوفا من القبض عليهم وإجبارهم على المثول أمام المحاكم لتطبيق القانون بحقهم, فهل من الممكن إحياء مفهوم «الدخيل» باستحداث وظيفة جديدة بمسمى «المُدخل أو المُجير» لترغيب الهاربين من يد العدالة بتسليم أنفسهم طواعية وتبديد الخوف لديهم عبر التقدم إلى «مُجير» يعمل بصفة رسمية لحساب الدولة التي يقيم فيها وتكون لديه صلاحية بمنح الإجارة لفترة زمنية معينة يقوم خلالها بالتدخل لدى غريم أو غرماء الدخيل والسعي في إصلاح ذات البين بين الطرفين أملا في إيجاد صيغة توافقية أو حل وسط يقبل به الغريم إلى حين انتهاء إجراءات القضية وصدور الحكم النهائي بشأنها, بدلا من هروب الدخيل أو لجوئه إلى بلد آخر, لاسيما وأن أهداف هذه الوظيفة لا تتعارض مع النصوص الشرعية في طلب المستجير الحماية والرعاية.