محمد خالد الخنيفر
على وقع رائعة تشارلز ديكنز «قصة مدينتين»، وقع حملة صكوك دانة غاز تحت رحمة الشركة ومساهميها في «تحول للأحداث»، لا نشاهده إلا في الأفلام السينمائية. وفي حين أنني لا أشكك في صحة الحجة الشرعية التي استندت إليها دانة غاز لتبرير عدم امتثال الصكوك للشريعة إلا أنني أشكك في الدافع وراء تصرفها.
ما أشاهده ويشاهده غيري بصناعة المال الإسلامية هو أن دانة غاز تحاول أن تقنن من التزاماتها نحو حملة الصكوك، وذلك تحت غطاء أن هذه السندات الإسلامية قد أصبحت غير إسلامية، ولم تكتشف الشركة ذلك إلا بعد مرور ما يقارب أربع سنوات من إصدارها. وقبل تلك الفترة كانت الصكوك ممتثلة للشريعة بحكم الفتوى التي تم إصدارها سابقًا، ولم يتم اكتشاف تلك «الفاجعة» إلا قبل 4 أشهر من موعد إطفاء تلك الصكوك. بالفعل يا لها من «مصادفة» أن يتم اكتشاف ذلك في الوقت الذي بدأت في الشركة بالتفاوض مع الدائنين حول إعادة هيكلة الصكوك. وتزامن ذلك مع استعانة الشركة بمستشار قانوني بارز عالميًّا في تخصص إعادة هيكلة الديون. طبعًا كبار الدائنين لدانة غاز هم شركة «بلاك روك» التي تعد من كبرى الشركات العالمية في إدارة الأصول (التي تبلغ 5.4 تريليون دولار)، وكذلك ذراع إدارة الأصول التابعة لبنك جولدمان ساكس.
القضية بالغة التعقيد، وتتداخل معها الأمور الشرعية والقانونية، وكذلك الأمور المتعلقة بأدوات الدخل الثابت؛ لذلك سنحاول أن نلخص ملابسات تلك القضية للقارئ العربي، وخصوصًا بعد أن تحولت تلك القضية لمسألة جدلية، تتداولها سائر وسائل الإعلام الغربية. لذلك سنحاول إبراز وجهة نظر أبطال تلك «الحبكة»، ولاسيما أن كلا المتخاصمين يمتلك حججًا دامغة.
خلفية
الذين يتذكرون الزاوية السابقة المعنونة بـ»هل تقترب صكوك (دانة غاز) من التعثر للمرة الثانية؟» يدركون أن
أن الصكوك سوف يحين أجل إطفائها في أكتوبر 2017. طبعًا، القيمة المتبقية للصكوك تصل إلى 700 مليون دولار، ولكن السيولة النقدية المتوافرة حاليًا تصل إلى 300 - 435 مليون دولار (وعليه الشركة ليس لديها القدرة على الدفع للمستثمرين).
في الأسبوع الماضي أفادت دانة غاز بأنها تلقت نصيحة قانونية بأن صكوكها الحالية لا تتوافق مع الشريعة الإسلامية، وتخالف أحكام القانون في الإمارات العربية المتحدة، وغير قابلة للتنفيذ. ونقلت عني وكالة رويترز حينها بأن «تلك القضية قد أفزعت صناعتنا (أي صناعة المال الإسلامية)»، التي لم تتوقع أن يصل الأمر لتلك الدرجة.
الخطوة الثانية: احمِ أصولك من الدائنين
الأحداث لم تتوقف عند هذا الحد؛ ففي الوقت الذي كان فيه حاملو الصكوك يتأملون في البيان الصادر من دانة غاز، وشروط إعادة هيكلة الدين القاسية، قامت الأخيرة (وفي أقل من 24 ساعة) بانتزاع أمر وقتي من محكمتين (الشارقة وجزر العذراء البريطانية). وهذا الأمر ينص على منع اتخاذ أي إجراءات للتنفيذ على الأصول التي ارتكز عليها إصدار الصكوك (الدانة تخبرنا بأنها تعلمت من محاولة التعثر الأولى عندما هدد الدائنون بالاستحواذ على أصول الصكوك واضطرت الشركة لإصدار صكوك ثانية بأرباح عالية للمستثمرين). ذلك الإجراء القضائي جاء كنتيجة للمعاملة التي قدمتها دانة للمحكمة الإماراتية التي ينتظر أن يتم النظر فيها في 25 ديسمبر 2017. وتكمن فائدة تلك الخطوة في إيقاف إعلان الدائنين - على الأقل بصيغة قانونية - أن الصكوك قد تعثرت بشكل فني.
«الفجوة الشرعية» أقوى حجج دانة غاز
تقول دانة غاز في بيانها: «بناء على التطور المستمر الذي طرأ على أدوات التمويل الإسلامية نتيجة المراجعات التي تمت خلال السنوات القليلة الماضية، تلقت الشركة مؤخرًا نصيحة قانونية، تفيد بأن صكوك المضاربة بصيغتها الحالية لا تتوافق مع أحكام الشريعة». وقامت الشركة بتقديم 3 مبررات، جعلتها تعتبر صكوكها لا تمتثل لأحكام الشريعة: 1) التعهد بإعادة الشراء، وذلك وفق سعر مثبت مسبقًا. 2) الدفعات الدورية تم إعدادها وفقًا لحسابات قائمة على الفائدة. 3) وتنص الشروط على أن يتم دفع الأرباح بغض النظر عن أداء تلك الأصول (في حالة كانت تولد أرباح أم لا). ما تشاهدونه الآن يطلق عليه المراقبون مصطلح «مخاطر عدم الامتثال لأحكام الشريعة». لاحظ أن صكوك المضاربة من المفترض أن تكون قائمة على تقاسم الربح. وعليه فضمان الأرباح محرم. وهذا العقد يقوم على أساس أن الطرف الأول يقدم رأس المال في حين يقوم الطرف الثاني بإدارة المشروع. ويتم الاتفاق مسبقًا على معادلة توزيع الأرباح. وفي حالة سجلت الأصول التي يتم إدارتها خسائر فإن الطرف الأول يتحمل الخسارة، والطرف الثاني يخسر الوقت والجهد الذي تم بذله في إدارة المشروع. على العموم، المعركة القضائية لن تكون مقصورة على المحامين، بل ستشمل فقهاء المصارف الذين سيقدمون شهاداتهم في تلك القضية، ويوضحون بعض التباين في وجهات النظر مع المدارس الفقهية الأربع.
التخفيض القسري للأرباح
تقول دانة في بيانها: «تقترح الشركة استبدال الصكوك بأداة جديدة قابلة للتنفيذ، ومتوافقة مع أحكام الشريعة، وأن تكون مدة استحقاقها 4 سنوات، وبتوزيعات أرباح بنسبة تقل عن نصف نسبة الأرباح الحالية من دون خيار التحويل (إلى أسهم). وستكون الأرباح على شكل مدفوعات نقدية ومدفوعات عينية».
معنى ذلك أن الأرباح ستكون أقل من 4 %، ونسبة الربح هذه لا تتواءم مع أساسيات تسعير أدوات الدخل الثابت. الشركة لم تبرر في بيانها الدوافع وراء قيامها بتخفيض نسبة الأرباح إلى النصف. هل هذا القرار له علاقة بالجانب الشرعي؛ وذلك لكون الأصول لا تدر أرباحًا عالية؟ المفاجأة الأخرى هي أن الشركة قد تنوي دفع الأرباح على شكل مدفوعات عينية (وهذا شيء غير متعارف عليه بأسواق الدين).
إيقاف فوري لتوزيع أرباح الصكوك
تقول دانة في بيانها: «ونظرًا إلى أن الصكوك الحالية لا تتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية فإنه لا يمكن دفع توزيعات الأرباح في 31 يوليو 2017، و31 أكتوبر 2017، إلا أنه سيتم احتساب هذه التوزيعات كجزء من الصكوك الجديدة المتوافقة مع القوانين المرعية»؛ لذلك نقول إن «التعثر الفني» سيحدث من جراء عدم دفع الأرباح. ولكن لا يمكن لنا بشكل قانوني اعتبار ذلك تعثرًا فنيًّا بسبب قرار المحكمتين (خصوصًا أن محكمة الشارقة ستنظر في قضية عدم قانونية الصكوك). لعلي هنا أتساءل عن الحكم الشرعي للأرباح التي سبق توزيعها للمستثمرين الذين يبحثون عن الاستثمار بطريقة إسلامية. هل يا ترى سيطلب منهم التخلص من هذه الفوائد وتوجيهها نحو صندوق الدخل المحرم؟
وجهة نظر الدائنين
- يتساءل البعض: لماذا تقوم دانة غاز بكل ذلك؟ الأمر الذي يتفق الجميع عليه هو أن هذا التصرف يعتبر أسلوبًا تكتيكيًّا رائجًا من قِبل الجهات التي تعاني ماليًّا، وتحاول شراء المزيد من الوقت، وذلك بغرض الحصول على أكبر قدر ممكن من الشروط الجيدة والمتعلقة بإعادة هيكلة ديونها. ومع هذا فلا يزال العاملون بصناعة المالية الإسلامية يشعرون بالقلق.
- وجهة نظر الدائنين تتمحور حول استثمارهم بتلك الصكوك في 2013 بعد صدور فتوى بإجازتها؛ لذلك أتمنى من الجهة المرموقة التي أصدرت الفتوى أن يكون لها موقف شجاع، وتفتينا في مسألة الرجوع في فتوى سابقة. مع العلم أنه إبان تصريح الشيخ تقي عثماني الشهير في 2007 عندما قال إن 85 % من صكوك الخليج غير إسلامية (كان يقصد صكوك المضاربة والمشاركة)، فإنه خلال تلك الفترة لم يقم الفقهاء المصرفيون بتحريم الصكوك القائمة على تلك العقود، ولم تقم الجهات المصدرة بالتنصل من التزاماتها القانونية. وفي السنة التي تلتها قامت «آيوفي» بإصدار توجيهات شرعية، تصحح بها المسار الخاص بالصكوك التي تكون قائمة على المشاركة والمضاربة.
الفجوة القانونية: أقوى حجج الدائنين
تلك الصكوك دخلت منطقة «الأراضي غير المدونة على الخريطة»؛ وذلك بسبب التداخل في عدد السلطات القضائية التي يندرج تحتها الإصدار. يرى القانونيون أن مستندات الإصدار تندرج تحت نطاق القانون الإنجليزي، إلا أن عقد المضاربة يندرج تحت القانون الإماراتي؛ لذلك قالت اللجنة التي تمثل حملة الصكوك إن «قرار الشركة إيقاف الدفعات واستبدال هذه الصكوك بأدوات استثمارية أخرى يُعتبر تنصلاً من تطبيق القانون الإنجليزي الذي يحكم هذه الأدوات الاستثمارية». وأضافت بأنها «لن تمضي قدمًا باستبدال هذه الصكوك بأدوات استثمارية أخرى بعوائد نقدية أقل»؛ لذلك أقول إن حظوظ الدائنين بالفوز تبدو أكبر - كما هم يرون - في حالة تم الاحتكام لمحكمة بريطانية.
ما تبعات نجاح دانة في إثبات أن صكوكها غير إسلامية؟
- ستهتز الثقة بالصكوك الإماراتية القائمة على عقدي المضاربة والمشاركة (وذلك في الوقت الذي تسعى فيه دبي لتكون عاصمة صناعة المال الإسلامية الأبرز).
- قد يكون هناك علاوة سعرية (للتعويض عن مخاطر محتملة لعدم الامتثال الشرعي) على أي صكوك قائمة على المضاربة؛ لذلك ذكرت في مقابلة رويترز أن «مخاطر عدم امتثال تلك الصكوك (أي دانة غاز) لأحكام الشريعة يُعد أمرًا غير مسبوق في تاريخ أسواق الدين الإسلامية»، وقد يفتح المجال لأي شركة أن تتنصل من التزاماتها بحجة أن المعيار الشرعي قد تغير بعد إصدار الدين.
- قد يطالب المستثمرون بالحصول على أكثر من فتوى لكل إصدار، وقد تتدخل الجهات التنظيمية من أجل إلزام الجهات المصدرة بالحصول على الفتاوى من الهيئات الشرعية المركزية.
إلى من سيؤول إليه الأمر؟
- إما أن يتم الاتفاق على الشروط غير العادلة كما يراها المستثمرون، أو أن يخوض الطرفان معارك قضائية مكلفة، ويطول معها الوقت المستغرق لهيكلة الدين.
- إن صناعة المال الإسلامية التي تقدر قيمتها بتريليونَي دولار في غنى أن تضرب سمعتها بسبب صكوك صغيرة.
- لذلك ما تقوم به دانة غاز قد يلحق بعض الأذى بسمعة أسواق الدين الإسلامية. ويبدو لي أن الشركة قد فضلت مصلحة نفسها ومساهميها على حساب سمعة صناعة المال الإسلامية التي تقوم على مبدأ الثقة في كون هذه الأدوات متطابقة مع الشريعة في المقام الأول.