تقديم المترجم: يسعدني تقديم ترجمتي لهذه الدراسة النوعية المهمة للبروفيسور مائير هاتينا. البروفيسور هاتينا هو أستاذ في قسم الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية، الجامعة العبرية في القدس. ونشرت الدراسة في مارس 2011:
ويتضح من اعتماد المحكمة على المصادر الإسلامية والاستشهاد بشيخ الأزهر الأسبق استمرار حاجة النخبة السياسية إلى الشرعية الدينية من أجل تحييد منافسها السياسي الإسلاموي القوي، جماعة الإخوان المسلمين، وتعزيز سياساتها العلمانية. وفي حين أن هذا الاعتماد على الإسلام بصفته الآلية الأكثر فعالية لتحقيق تعبئة عامة مُساندة لم يُبطل عملية التحديث التي تحققت في مصر (ودول شرق أوسطية أخرى) مع بداية الخمسينيات، إلا أن هذا التطور كان واضحاً غالباً في المجالات الإدارية والاقتصادية-الاجتماعية؛ وهو ما ترك استقلالا واسعا للقانون الديني في مسائل الأحوال الشخصية. لقد تجنبت الحكومة تمرير قوانين تقيد مباشرة بعض أحكام الشريعة الإسلامية (مثل السماح بزواج الصغار وتعدد الزوجات)، مكتفيةً بصياغة قوانين جديدة تعيق ولا تمنع مراعاة تلك الأعراف الدينية. (59) وفي نهاية المطاف، بقيت مسألة منزلة الإسلام في الدولة دون حل، وهو ما يعكس في المقام الأول تردد النخبة السياسية في مواصلة إبعاد الدين عن الحياة العامة.
وإذا كانت الإنجازات المحدودة التي حققتها التجربة البرلمانية في مصر شجعت العديد من المثقفين للضغط من أجل ظهور قيادة حاسمة لتنفيذ إصلاح حكومي شامل، (60) فإن الحالة مهدت أيضا الطريق لظهور قوة جديدة راديكالية على الساحة السياسية: «الجيش».
حكم العسكر: يوليو 1952
لقد ألغى انقلاب الضباط الأحرار، في يوليو 1952، الحكومة الدستورية واستبدلها بحكومة استبدادية بقيادة عبد الناصر. وألغى ناصر جميع الهيئات الدستورية، وقَيَّدَ الحريات الفردية، وجعل القومية العربية هوية مصر والتي أصبحت الأيديولوجية الرسمية للبلاد. وتعاظم هذا التطور بسبب رؤية النظام الجديد لوضع الدين في الدولة. وصادرت الحكومة السلطة الدينية من المؤسسة الدينية عبر إلغاء المحاكم الشرعية (عام 1956)، وتحويل الأزهر إلى جامعة حكومية (عام 1961)؛ ولكن هذا لا يعني أن الإسلام قد حُذف من المشهد السياسي. لقد أدت تلك الأعمال إلى تعبئة الدين للمصادقة على سياسات الحكومة خاصة القومية العربية ومعارضة الأنظمة الملكية العربية، والمصادقة على الاشتراكية العربية وقمع الإخوان المسلمين. كما واصل الأزهر الحفاظ على سلطته الأخلاقية في المجتمع وفرض عقوبات على أصحاب الآراء المنحرفة داخله. (61)
وتحت النظام الثوري، تجلت الوحدة العضوية بين الدين وبين الدولة بشكل رمزي لكون تعيين شيخ الأزهر يتم بأمر رئاسي وتجدد الاعتراف بالإسلام كدين رسمي للدولة، كما نص عليه البند الـ5 من الدستور المعدل عام 1964. (62) هذه الخطوات أثبتت اعتراف الحكومة بارتباط قطاعات واسعة من المجتمع المصري المستمر بالقيم التقليدية. وهكذا، فإن التغيرات في النظام السياسي المصري التي صنعتها الناصرية كانت جزئية وليست شاملة. نظام عبد الناصر، مثل النظام الدستوري القديم، وجد نفسه مضطراً لإظهار سلطته عبر مصطلحات دينية. وكما أشار دانيال كريسيلس، فقد «بقيت مصر دولة إسلامية في الشكل والمضمون». (63)
وخسر النظام الناصري، خلال الستينيات، بعض زخمه الأولي وتشوهت صورته بسبب تزايد الإخفاقات في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية. وأدت خيبة الأمل في العروبة إلى تأكيد الهوية الوطنية في مصر؛ ولكن لم يحدث سوى تقدم قليل في تطوير البلاد كدولة قطرية. وفي الوقت نفسه، تحول الصراع المستمر الذي خاضه الإسلام السياسي ضد النظام إلى بعد أكثر عنفاً بعد ظهور الأفكار الثورية للمنظر الإخواني المصري سيد قطب (1906-1966)، الذي عد الحكام المسلمين المعاصرين كزنادقة ودعا إلى استخدام القوة لتأسيس دولة إسلامية تخضع لحاكمية الله. واعتبر قطب وأتباعه الدولة كياناً تافهاً يتلخص دورها في الحفاظ على الدين ورسالته الأخلاقية من خلال آلية الحكومة. كما كان من الصعوبة التأكد من تحقق أحد المتطلبات المركزية الرئيسية للدولة القطرية، وهو أن تتوقف عن أن تكون اختصاصا حصرياً لجماعة خاصة، نظراً لأن نخبة ملاك الأراضي التي حكمت البلاد في النصف الأول من القرن العشرين قد حلت محلها النخبة العسكرية. (64)
وشهد عصر ما بعد الثورة في عهد خلفاء عبد الناصر، السادات (1970-1981) ومبارك (1981- )، صعود الإسلاموية أي الإخوان والجماعات المسلحة، باعتبارها قوة المعارضة الرئيسية للنظام والتي تفترض أن الإسلام يمثل دليلا شاملا للسلوك البشري. انتقال الإسلاموية من كونها ضحية للاضطهاد في عهد عبد الناصر إلى كونها تشكل تهديداً خطراً على النظام في عهدي السادات ومبارك نتج عن صحوة دينية وأزمة اجتماعية-اقتصادية طال أمدها؛ وهو ما أجبر الحكومة على تعزيز الرابط بين الدين وبين الدولة في مصر. وانعكس ذلك، على سبيل المثال، في استمرار عمل اللجنة القانونية التي تأسست في عهد السادات لدراسة مدى توافق قوانين البلاد مع أحكام الشريعة الإسلامية؛ وتمرير قانون في عام 1986 يحظر بيع واستهلاك الكحول من قبل المصريين؛ وترسيخ الصورة الإسلامية للدولة ومؤسساتها عبر تغطية واسعة للنشاط الديني في وسائل الإعلام، وفرض الرقابة على الكتب والتمثيليات المسيئة للإسلام. (65)
لقد كانت المواجهة المتجددة والمكثفة مع التحدي الإسلاموي في مصر ما بعد الثورة ربما سياسية أكثر من كونها أيديولوجية، وكشفت الصراع بين وجهتي نظر متضاربتين:
(أ) وجهة نظر ميتافيزيقية، قادمة من الماضي، وتفترض أمور مطلقة وأوامر لا لبس فيها، ومنفصلة بطرائق ما عن قيود الواقع؛ و
(ب) وجهة نظر عقلانية تنظر إلى المستقبل، وتسعى إلى ترجمة الدين إلى مدونة أخلاقية عامة لتعزيز أهداف محدودة وقابلة للتحقق في الواقع العملي.
يتبع
ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى - الدار البيضاء
hamad.aleisa@gmail.com