محمد عبد الرزاق القشعمي
أما غالية فهي تتمتع بذكاء فائق وثقة بالنفس كبيرة وفارسة متمرنة على فنون الفروسية تطعن بالرمح وتضرب بالسيف وترمي بالتفق، وكانت إدارتها لشؤون الإمارة ذات قبول ورضى من قبل العشيرة، فبعد وفاة زوجها امتنع كثير من بادية البقوم والقبائل المجاورة عن دفع الزكاة لبيت المال فحملت عليهم وألزمتهم بالامتثال لتلك الفريضة الشرعية، وطمعت بعض القبائل المجاورة بأملاك عشيرتها فتصدت لهم، وقام حاكم الحجاز الشريف غالب بحملة عسكرية لفرض سلطته على مدينة تربة وعلى منطقة البقوم بكاملها فردته وألحقت به هزيمة ساحقه.. وكان يقال أن لها خططاً بارعة في الحرب وإلحاق الهزيمة بالأعداء.. ومن ذلك قولهم إنها تأمر قواتها بالاشتباك في ميدان المعركة مع العدو وتبقي مجموعة من أشد فرسانها وأسرعهم حركة وأمهرهم في فنون القتال فإذا أجهد المقاتلون في الميدان أمرت من أبقتهم عندها بالهجوم الخاطف وهي تتقدمهم الأمر الذي يحسم المعركة لصالحها.
وقالوا إنها إذا ركبت للمعركة تعصب رأسها بطرحتها وتتلثم فلا يظهر من وجهها إلا عينيها وبعض جبينها وأنها تشمر عن ساعديها وإذا اشتبكت مع العدو تطلق صهيلاً قوياً يرعب الخيل وتنخلع منه قلوب الفرسان فيفرون من أمامها، كتب عنها كثير من المؤرخين من العرب وغيرهم نذكر منهم:
* مؤلف (البحر الزاخر) محمود فهمي المهندس الذي قال عنها: لم يحصل من قبائل العرب القاطنين قرب مكة أشد مما أجراه عرب البقوم في تربة وقائد العربات في ذلك الوقت امرأة أرملة اسمها غالية كان زوجها أشهر رجال هذه الجهة وكانت هي على غاية الغنى ففرقت جميع أموالها على فقراء العشائر الذين يرغبون في محاربة الترك، ففي أوائل نوفمبر عام 1813م ذي الحجة عام 1228هـ سافر طوسن من الطائف ومعه 600 مقاتل للغارة على تربة وأمر عساكره بالهجوم وكان العرب محافظين على أسوار المدينة بشجاعة ومستبشرين بوجود غالية معهم وهي المقدمة عليهم فصدوا طوسن وعساكره واضطر هؤلاء العساكر إلى ترك خيامهم وسلاحهم وقتل منهم في ارتدادهم نحو سبعمائة، ومات كثير منهم جوعاً وعطشاً.
* وقال المؤرخ المصري عبدالرحمن الجبرتي في حوادث صفر عام 1229هـ: «.. وصل مصطفى بك أمير ركب الحجاج إلى مصر وسبب حضوره أنه ذهب بعساكره وعساكر الشريف من الطائف إلى ناحية تربة والمتأمر عليها امرأة فحاربتهم وانهزموا منها شر هزيمة فحنق عليه الباشا وأمره بالذهاب إلى مصر مع المحمل. وقال أيضاً في حوادث جمادى لأولى عام 1229هـ وفي رابعة وصلت هجانة من ناحية الحجاز وأخبر القادمون أن طوسن باشا وعابدين بيك ركبا بعساكرهم إلى ناحية تربة التي بها المرأة التي يقال لها غالية فوقعت بينهم حروب ثمانية أيام ثم رجعوا منهزمين ولم يظفروا بطائل... » (2).
* وقال عنها المستشرق السويسري بوركهارت المرافق لزعيم الحملة العسكرية العثمانية على جزيرة العرب آنذاك محمد علي باشا قال: «.. يتزعم عرب البقوم الذين يعمل بعضهم في الرعي وبعضهم الآخر في الزراعة أرملة تسمى غالية وكان زوجها أحد زعماء تربة وكانت لديها ثروة تفوق ما لدى أي أسرة عربية في منطقتها فأخذت توزع نقوداً ومؤناً على فقراء قبيلتها الذين كانوا على استعداد لقتال الأتراك وكانت مائدتها دائماً معدة للجميع من المؤمنين المخلصين الذين يعقد زعماؤهم مجالس في بيتها. وبما أن هذه السيدة الكبيرة كانت مشهورة بسداد الرأي والمعرفة الدقيقة بأمور القبائل المحيطة بها فإن صوتها لم يكن مسموعاً في تلك المجالس فقط وإنما كان يُسمع بشكل عام (3).
* وقال عنها خير الدين الزركلي في (الأعلام): غالية الوهابية توفيت عام 1814هـ. وهي من عرب البقوم سيدة من بادية ما بين الحجاز ونجد اشتهرت بالشجاعة ونعتت بالأميرة. وكان أهل تربة أسبق أهل الحجاز إلى موالاة نجد اتبعوا مذهب الحنابلة الذي سماهم الترك والإفرنج الوهابية، اعتقدوا أنها ساحرة وأن لها قدرة على إخفاء رؤساء الوهابيين عن أعين المصريين.
* ويقول المؤرخ الفرنسي (دريو): إن هزيمة المصريين في تربة أمام (غالية) كانت ضربة قاصمة لسمعة محمد علي وابنه طوسون، لذلك أسرع محمد علي في السفر من مصر إلى الحجاز لتدارك الأمر.
* ويقول المؤرخ الفرنسي الآخر (غوان): إن غالية كانت في نظر المصريين، ساحرة تعطي الجنود (سراً) يحصنهم من الهزيمة، فلا يستطيع أحد أن يغلبهم، ولهذا شبهوها ببطلتهم (جان دارك) التي اشتهرت ببطولتها الخارقة في محاربة الانكليز الذين احتلوا قديماً جزءاً من فرنسا.
* وقال منير العجلاني في كتابه (تاريخ البلاد العربية السعودية - الدولة السعودية الأولى، ج3): لا نجد في كتب التاريخ السعودي ذكراً لغالية، استثني إشارة عابرة لأمين الريحاني في كتابه (نجد وملحقاتها)، فقد قال، نقلاً عن المؤرخ الفرنسي مانجان: إن الحملة الثانية على تربة عادت تتحدث عن بدوية باسلة كانت في طليعة العربان تحرضهم على القتال.. وهي غالية امرأة أحد مشايخ سبيع.
* وقال الرافعي في تاريخه أن طوسون أرسل أحد قواده مصطفى بك لمهاجمة تربة فانقض عليه الوهابيون، وكانوا بقيادة سيدة تسمى غالية، أثارت فيهم الحمية والحماسة، فأعملوا في الجيش المصري قتلاً إلى أن وقعت الهزيمة، وارتد المصريون بغير نظام إلى الطائف.
* وقال الأب لويس شيخو، في بحث نشره في مجلة المشرق عام 1920م، إن الوهابيين في تربة خرجوا لمحاربة المصريين، وكانت في مقدمتهم امرأة تدعى غالية، زوج شيخ قبيلة (صبيح) تهزم وتهوس القوم، فأبلوا البلاء الحسن وكسروا المصريين وضبطوا كل أثقالهم وأسلحتهم.
* وذكر محمد البسام في كتابه المخطوط، المحفوظ في مكتبة المتحف البريطاني ما يأتي: البقوم.. الحاكمة عليهم امرأة اسمها (غالية) ذات رأي وتدبير، وحزم وشجاعة، لم يدركها أشد الرجال..
وبعد أن حسمت المعركة التي قادها محمد علي باشا بنفسه عام 1230هـ في كلاخ وبسل بحيلة لصالح المصريين هرب فيصل بن سعود ولجأت غالية إلى البدو، وهكذا انتهت أسطورة هذه المرأة الفذة بسقوط معقلها تربة وبقيت سيرتها العطرة تجسد ملحمة ممتعة في الشجاعة والوفاء والعطاء المتواصل، واختلفت الروايات منها من قال ذهبت إلى البادية والبعض الآخر ذكر أنها طلبت العفو من محمد علي باشا وعفا عنها، ومنهم من قال ذهبت إلى الدرعية..(4).
وقالت دلال الحربي: «.. رغم أن محمد علي أمنها وأعطاها المواثيق؛ إلا أنها لم تكن تثق به مطلقاً، وتوقعت أن يكون مصيرها - فيما لو ركنت إلى وعوده - مصير من كان قبلها ممن أسرهم محمد علي وأرسلهم إلى استانبول، وأن محمد علي تكدر كثيراً من هروبها ونجاتها من يده لأنه كان في اشتياق لإرسالها إلى استانبول لتكون علامة نصره وفوزه، ولكي يعيد اعتباره أمام تلك المرأة التي تسببت له في كثير من الحرج ونالت من سمعته العسكرية، وتتفق روايات شفهية مع رواية بوركهارت القائلة أهل الحرة أقل الناس تعرضاً للأخذ والغارات لوعورة وصعوبة مسالك الحرة.
ويذكر أحد الباحثين أنها قضت آخر عمرها في ذواد في وادي كراء مع ابنتها زملة التي أنشأت هناك مزرعة وقصراً عرف باسمها (قصر زملة)، وصار ميراثاً بعد ذلك لبني محيي.. » (5).
وأخيراً فهل نغفل ذكر مثل هذه البطلة التاريخية؟ وننساها؟ أفلا يجدر بنا أن نخلد ذكرها ونشدو بها لتكون رمزاً ومثالاً يحتذى؟
أسأل عن المقررات الدراسية هل تحمل ذكراً لها ولمثيلاتها؟ هل سميت أحد مراكزنا ومؤسساتنا باسمها.
صحيح أن هناك شارعاً فرعياً صغيراً منزوياً لا يزيد على 200م في حي (الروضة) بالرياض يحمل اسمها، وكتب عنها ترجمة مختصرة في (معجم أسماء شوارع مدينة الرياض) «من قبيلة البقوم، اشتهرت بالشجاعة وصدت جيش محمد علي الذي أغار على تلك الجهات وهزمته، وولاها الأمير عبدالله بن سعود إمارة قومها بعد وفاة زوجها» (6)..
فهل هذا يكفي؟.
... ... ...
( )انظر: سعد بن خلف العفنان، البطلة الشهيدة غالية البقمية، ط1، 1431هـ/ 2010م، (د. ن).
(2)عبدالرحمن الجبرتي، تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، ج 4، ص 202 – 206.
(3)عمر رضا كحاله، أعلام النساء، ج4 – 5.
(4)انظر: مناحي ضاوي القثامي، الطائف وسوق عكاظ، نادي الطائف الأدبي، 1432هـ.
(5)غاليه البقمية، دلال مخلد الحربي، الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، ط1، 1434هـ، ص 95.
(6)أمانة مدينة الرياض، معجم أسماء شوارع مدينة الرياض، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص 666.