قراءة في كتاب (عندما يحكي الثبيتي) من تأليف الأستاذة / منى المالكي ,ومن إصدارات النادي الأدبي الثقافي بجدة, عام 1434هـ.
عرض وتحليل/ حمد حميد الرشيدي
(للوقت قانونه الخاص مع من تعيش معه بوجدانك, مع من بقي قويا في ذاكرتك لم تستطع الساعات ولا الأيام ولا حتى سنة من الزمن إخفات بريقه أو روعته داخل حنايا الروح .عندها تعلم أنه ذلك (القرين) الذي رافقك على مدى سنوات من البحث والقراءة والتأمل , ومن بعدها الكتابة , ذلك الحصان الجامح مع شاعر بحجم وروعة (محمد الثبيتي).
كنت أشعر أنني ما أن انتهي من بحثي عن (الثبيتي) حتى ألملم أوراقي, وأنهي المناقشة بإهدائه لي درجة الماجستير ثم أمضي وحدي|!!
ما كنت أعلم أن (محمدا) سيبقى هناك في الذاكرة والوجدان, أمضي معه بشخصياته تلك والتي خلقت عوالم لا تنتهي من الدهشة والفرح والألم والحزن على مبدع ظل هناك في الصحراء يرى فيها ما لا نرى.
لم يعش محمد واقعه فقط, كان يعرض الوجود على شاشة وعيه, يحصي أماكن الألم والوجع, مفصحا عن وعيه الذاتي بالعالم الكئيب في نظره, فتلتصق بذاته الأشياء ليقدم رؤية شعرية حاربه كثيرون عليها, يتهمونه تارة ويقصونه مرات, ولكنه يظل باقيا وحاضرا في ذاكرة وطن رسمه محمد الثبيتي نفسه.
إنه لا ينفك يستحضر الصحراء, وطنه وعشقه الأول الذي رأى فيه المرأة والوطن والعشق).
كان ما مربنا – أيها القراء الأفاضل- عبارة عن مقالة للمؤلفة ,ضمنتها كتابها هذا , وهي في الأصل مقالة نشرت لها سابقا بصحيفة (عكاظ) حول تأبين الشاعر السعودي الراحل الكبير /محمد الثبيتي رحمه الله تعالى.
وقد تناولت المؤلفة في هذا الكتاب التجربة الشعرية المتميزة للثبيتي, كأحد الأسماء الشعرية البارزة في شعرنا العربي الحديث بوجه عام ,وكرائد من رواد حركة الشعر السعودي الحديث بالمملكة ومنطقة الخليج العربي بوجه خاص, وأحد مؤسسيه وفرسانه بلا منازع.
وقد خصصت المؤلفة عنوانا رئيسا لموضوع الكتاب هو(دراسة نقدية للسردية الشعرية السعودية في الثمانينيات) وجعلت من الثبيتي نموذجها الشعري الذي يدور حوله موضوع كتابها ومادته خلال تلك الحقبة المشار إليها من الزمن , ألا وهي (فترة الثمانينيات الميلادية) باعتباره ظاهرة شعرية منفردة جماليا وفنيا – كما وصفته - ويندر تكرارها, كما جاء في المقدمة التي وضعتها المؤلفة واستفتحت بها الكتاب.
وقد قامت بتقسيم مادة الكتاب الى ستة فصول جاءت كلها مركزة على فنيات وجماليات بناء النص لدى الشاعر محل الدراسة, وتم تفريعها إلى عدة عناوين من أهمها: بوابات السرد الشعرية, والتناص وتوظيف التراث , ومنابع السرد الخفية, وتحولات المتخيل الشعري, وغيرها.
وقد استعرضت الكاتبة أثناء ذلك كله نماذج شعرية متنوعة للثبيتي, وأوردت كثيرا من النصوص أو المقاطع الشعرية التي تعتبر من أكثر شعره شيوعا وانتشارا بين الناس ولدى محبي الشعر وهواته والمهتمين به.
ومن هذه النصوص قصيدته الشهيرة التي تحمل عنوان (سيد البيد) والتي لقب بها الثبيتي فيما بعد , لروعتها وجمالها حين كتبها وتم نشرها لأول مرة منذ بضعة عقود مضت, حتى اقترن اسمه بها, وصار يعرف بـ (سيد البيد) جاء من ضمنها قوله رحمه الله:
(مرحبا سيد البيد
إنا انتظرناك حتى صحونا على وقع نعليك
حين استكانت لخطوتك الطرقات
وألقت عليك النوافذ دفء البيوت
ستموت النسور التي وشمت دمك الطفل يوما
وأنت الذي في قلوب الصبايا هوى لا يموت).
وكذلك النص الذي عنونه الشاعر بـ (وضاح)وهو من أشهر نصوصه, والذي جاء من ضمنه قوله:
(صاحبي
ما الذي غيرك؟
ما الذي خدر الحلم في صحو عينيك؟
من لف حول حدائق روحك هذا الشرك؟
عهدتك تطوي دروب المدينة مبتهجا
وتبث بأطرافها عنبرك).
إن هذا الكتاب , الذي كان في الأصل عبارة عن فكرة ناقشتها الباحثة مع إحدى الجامعات , لتجعل منها مادة علمية , أو أطروحة لنيل درجة الماجستير في فرع الأدب والنقد, ما هو – في الحقيقة – إلا كتاب متميز ومتفرد في موضوعه ومادته, وفي أسلوب مؤلفته وعرضها وتناولها بالشرح والتحليل الأدبي والعلمي لمحتواه, والمبني على رؤى منهجية, غاية في الدقة والشمولية, وبعد النظر.
وهذا ما ينبئ عن امتلاك الباحثة لموهبة فذة في مجال التذوق الأدبي وفنياته وأدواته بشكل واضح وجلي تستحق عليه الشكر والتقدير والإعجاب من قبل كل من يقرأ أو يطلع على كتابها هذا.
وقد حققت الكاتبة من خلال عملها هذا جميع ما يمكن أن تنص عليه قواعد البحوث العلمية والمنهجية المعروفة وأسسها الصحيحة, من جدة الفكرة وطرافة الموضوع, واتسام الأسلوب بالموضوعية , واستقلالية النظرة وعمق الرؤية وشموليتها وصلتها الوثيقة بكل ما له علاقة بالمادة المبحوثة. ومن يتمعن في فهرس المصادر والمراجع التي أوردتها الباحثة في نهاية الكتاب يتبين له مدى الجهد الكبير والمضني الذي بذلته لاستيفاء موضوعها من كافة الجوانب, حيث استعانت بعشرات المراجع من البحوث والدراسات ذات الصلة الوثيقة بمادة كتابها هذا.
وهو علاوة على ذلك كتاب يؤرخ لمرحلة هامة جدا من المراحل التي مر بها الأدب السعودي, والشعري منه تحديدا, خاصة ما يعرف بعصر الحداثة, ألا وهي فترة الثمانينيات الميلادية, والتي كان الثبيتي – رحمه الله تعالى – أحد مؤسسيها وروادها ,بل كان أحد فرسانها البارزين الذين يشار إليهم بالبنان!
- حمد الرشيدي