ومن هنا يتضح الفيصل بين نسبة ظاهرةٍ ثقافيةٍ إلى ثقافة معينة ونفيها عنها؛ فالأمر يحكمه معياران:
الأول : إخضاع الظاهرة المعرَّبة ثقافيا لقيم الثقافة العليا ومقاصدها الكبرى؛ فما انسجم مع تلك القيم والمقاصد كان داخلا في منظومة الثقافة، وما لم ينسجم معها وُصِف بالدخيل، وإن كان هذا الوصف لا يستلزم الرفض، بل يمكن معه التعايش مع هذا المنتَج الذي لم تخضعه الثقافة للتعريب، ويمكن استعماله. وقد تعربه الثقافة في وقت لاحق، وقد يبقى مستعملا دون تعريب، وقد يُهجر فيموت ثقافيا. فالأمر في التعريب الثقافي مشابه لما يحدث في التعريب اللغوي.
الثاني : لا يكفي الانسجام مع القيم والمقاصد؛ بل لابد مع ذلك من «القبول الاجتماعي» ، وهو ثمرة «العرف الثقافي» فليس كل ما تَوافق مع الهوية الثقافية يلزم موافقة العرف له لينال بذلك مباركة القبول الاجتماعي ومن ثم الدخول في منظومة الأنماط الثقافية ، لأن العرف الثقافي هو - في تصورنا- قوانين الثقافة وإمكاناتها المنمّطة من خلال السلوك الجمعي، والتنميط يتم عن طريق العقد الاجتماعي ، والتكرار والترسيخ ، والحماية والرقابة . (انظر تفصيل ذلك في كتابي « نظرية العرف اللغوي...» ص 77 والمواضع المشار إليها في الهامش) .
فيمكن أن نتصور ظاهرة ثقافية معينة في الطعام أو اللباس أو الفنون الشعبية تمارسها فئة مسلمة في بيئة من البيئات غير العربية ، ولا تتعارض مع قيم الثقافة الإسلامية ومقاصدها العليا ، لكن العرف الثقافي العربي في بيئة من البيئات العربية (كالحجاز مثلا) لم ينمّط هذه الظاهرة ضمن منظومته الثقافية الخاصة، لأنها لم تمر بعدُ عبر بوابة القبول الاجتماعي الخاص بهذه البيئة الثقافية العربية، فحينئذ إذا تلبّس فرد أو أفراد بهذه الظاهرة التي تجيزها الهوية الثقافية ولكن لم ينمّطها العرف الثقافي بعدُ فهذه يصح تسميتها ظاهرة دخيلة ، لكن لا على معنى الرفض، إنما بقصد التوصيف العلمي فقط، أما التعايش والاستعمال فبابه مفتوح.
إذا عُرِفت هذه الحقائق عُلِم مقدار الخلط واللبس الذي وقع فيه المخطئون في هذا الباب، وأساس ذلك هو عدم التفريق بين الثوابت والمتغيرات في الثقافة، ثم تأتي أمور أخرى كالوهم في معيار الأصالة، والغفلة عن حقيقة التعريب الثقافي.
3 ـ الألعاب الشعبية وفنون الفروسية:
وكما كثر في وسم « هوية الحجاز » الحديث عن أصالة العمامة وأعجمية الغبانة ، والاحتفاء بالعقال والغترة وإقصاء الغبانة والصديرية والشال ؛ كثر كذلك الحديث عن أصالة التعشير وأعجمية لعبة المزمار ، وأن التعشير يمثل هوية الحجاز الأصيلة في أنماط الألعاب الفروسية ، ومثله ألعاب الأفراح كالمجرور والخبيتي ...إلخ ، وأن لعبة المزمار تراث أعجمي أفريقي وثني لا علاقة له بثقافة الحجاز !
وتجنبا للإطالة نكتفي بالحديث عن لعبتي التعشير والمزمار ليقاس عليهما غيرهما كما فعلنا في الحديث عن العمامة والغبانة في نمط اللباس ، فالغرض هو مناقشة معيار الأصالة الذي بنى عليه هؤلاء تصورهم للهوية الثقافية وموقفهم من تنوع أنماط الثقافة .
التعشير: لعبة حماسية تعدّ جزءا من عرْضات الأفراح التي تقام في الزواجات والأعياد والمناسبات الوطنية ونحو ذلك، وتتم برقص الشباب على وقع الطبول بخطوات متقاربة مع قفزات خفيفة ممسكين بالبنادق، لاعبين بها كاللعب بالعِصيّ ، ثم يتوقف الواحد منهم في مكان مخصص في وسط الحلقة ليوجه بندقيته إلى الأرض مطلقا بارودها مثيرا بذلك حماس المشاركين والمتفرجين. وهذه طريقة اللعب الحماسي بالبنادق لدى قبائل وسط الحجاز وشماله إلى المدينة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وأما في جنوب الحجاز فتختلف الطريقة اختلافا طفيفا؛ فاللعب بالبنادق (المقمّع) يكون بإطلاق بارودها إلى الأعلى، مع الرقص على وقع ما يسمى « الزير « ، ولا يُلوَّح بالبنادق كما يفعل اللاعب بالعصىّ .
وبدهي أن القبائل العربية لم تكن قديما تلعب بالبنادق ؛ إذ لم تكن البنادق الحديثة قد اخترعت حينئذ، ولكن لكل عصر أسلحته، فكانوا يلعبون بالسيوف والحراب ونحو ذلك، فالجوهر الثقافي في اللعبة ثابت، وهو قيمة الفروسية ، ولم يؤثّر في هذا الجوهر تغير الأشكال والوسائل التي تتحكم فيها متغيرات الثقافة، فلو كنا سنفهم الهويات الثقافية على ضوء معيار الأصالة المطروح في وسم « هوية الحجاز « لأصبح فن التعشير فنا أعجميا فارسيا دخيلا لا يمت لثقافة الحجاز بصلة !! وذلك لأن البحث التاريخي في رياضة اللعب بالبندقية يقودنا إلى معرفة جذورٍ أو « أصولٍ « أقدمَ من الأصول العربية ، « فرياضة الرمي بالبندق لعبة فارسية أخذها العرب عن الفرس في أواخر أيام عثمان بن عفان، ومارسوها زمنًا، ولكنهم كانوا يعدّون ظهورها منكرا يجب اجتنابه، وإن ظل ثمة من يزاولها.
وكان للرشيد فرقة تسير بين يديه وترمي بالبندق من يقف في طريق موكبه. ولما جاء الناصر لدين الله اهتمّ بهذه الرياضة اهتماما عظيما. والبندق: كُراتٌ دِقاقٌ من الطين أو الحجارة أو الرصاص، وتُرمى بالقوس. وكان الفتيان يخرجون جماعات إلى ضواحي المدن، ويطيّرون الحمام ثم يرمونه بالبندق، ثم افتنّوا في رمي البندق على مرّ الأيام فرموها بالمزاريق أو الأنابيب بضغط الهواء من مؤخرة الأنبوب. فلما اخترع البارود صاروا يرمون البندق به من تلك الأنابيب، وسموا هذه الآلة بندقية نسبة إليه «. (انظر : الفتوّة عند العرب ـ أحاديث الفروسية والمثل العليا ، عمر الدسوقي ، 245) .
والحقيقة أن التعشير لعبة حماسية فروسية تعبر عن ثقافة الحجاز , برغم أن البحث التاريخي قاد إلى اكتشاف أصول غير عربية لرياضة الرمي بالبندق ، فالبحث التاريخي شيء والنظرة الوصفية شيء آخر، كما في مناهج الأبحاث الإنسانية عموما. والفيصل في الموضوع هو فيما سميتُه « التعريب الثقافي » كما سبق بيانه، فلعبة التعشير لها شكلها الخاص ضمن سياق فن حماسي له شكله الخاص كذلك، في سياق أنماط شعبية لها خصائصها كذلك، وأخيرا ضمن منظومة قيمية ومقاصدية متميزة عن غيرها من منظومات القيم الثقافية المختلفة.
وإذا صدَقَتْ هذه الحقيقة على لعبة التعشير فهي صادقة على لعبة المزمار أيضا ؛ فبعض مؤرخي الثقافة الشعبية في الحجاز يربط بينها وبين الثقافة الحبشية حينما يجعلها « من جنس الألعاب التي كان يلعبها الحبشة أمام الرسول صلى الله عليه وسلم « (انظر: صور من تراث مكة المكرمة في القرن الرابع عشر الهجري، عبدالله أبكر ، 2 / 937) ويرى بعض المتخصصين في العلاقات الثقافية بين العرب والحبشة أن « المسلمين أخذوا من الأحباش بعض أنواع الرقص وهو الحجْل الذي فعله جعفر احتفاء بالنبي حين قدم من الحبشة، وفي اللغة: « القِنِّين» من أسماء طنبور الحبشة « ، وكذلك الزَّفن والزفيف، وهما نوعان من رقصهم يمتازان بالسرعة، وتوالي الحركات (انظر: بين الحبشة والعرب، عبدالمجيد عابدين، 119 . وانظر هامش 1) . وفي لسان العرب : « في الحديث أن النبي قال لزيد أنت مولانا فحَجَل. الحَجْل: أن يرفع رجلا ويقفز على الأخرى من الفرح .. و يكون بالرِجلين جميعا إلا أنه قفز وليس بمشي» (انظر مادة ح ج ل).
فالزعم بأن لعبة المزمار في الحجاز هي ثقافة أعجمية وثنية لوجود لعبة شبيهة بها في أفريقيا بين أناس غير مسلمين يمارسون فيها طقوسا مناقضة للإسلام كتقديس النار ونحو ذلك زعمٌ يدخل في باب المهاترات العنصرية ولا يُقبل في باب البحث الثقافي الموضوعي ، فلو أدّى بنا البحث التاريخي إلى اكتشاف أصول وثنية لهذه اللعبة لكان الجواب كما قيل في أصول الرمي بالبندق ، فاللعبة الآن غير اللعبة فيما كان، فقد تهذّبت وتنقحت من شوائبها التي ترفضها قيم الثقافة الإسلامية، وأجازها العرف الثقافي عن طريق القبول الاجتماعي، وكان ذلك التهذيب والتنقيح عن طريق مِصْفاة الثقافة المسمّاة « التعريب الثقافي « ، فلاعِبو المزمار الحجازي مسلمون وليسوا وثنيين، فلو أوقدوا النار فإنما غرضهم الأنس بها، لأن لعبها يكون غالبا ليلا ، كما يشب أهل البادية نارهم ليلا ليأنسوا بالسمر حولها ، وليحموا عليها ما ينقرون عليه من أدوات اللعب، وكما يوقد لاعبو العَرْضة نارهم ليحموا عليها الزير كلما برد . فاللعبة دخلت في منظومة ألعاب شعبية حجازية مدنية لها خصوصياتها، في إطار قيم ثقافية إسلامية عربية لا يمكن معها أن تكون مطابقة لذلك التراث الوثني القديم الذي يُزعَم أنه أصلها؛ فالقيم والمقاصد مختلفة، واللغة مختلفة، والسلوك مختلف، والبيئة مختلفة، وكل هذا يعني أننا بصدد لعبة شعبية مختلفة يصح لنا أن ننسبها إلى ثقافة الحجاز ، فالانسجام مع الهوية الثقافية يسندنا قيميًا، والقبول الاجتماعي يؤيدنا واقعيا، وهما شرطان في نسبة الظاهرة الثقافية إلى الثقافة المعينة أو نفيها عنها كما سبق بيانه آنفا.
على أن في التعشير عناصر يمكن التماس شبه بينها وبين ألعاب الحبشة التي أُعجب بها عرب الحجاز في صدر الإسلام حتى سمح لهم الرسول عليه الصلاة والسلام باللعب بالحراب في المسجد، ونظر إليهم هو وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ؛ فلاعِبو التعشير يحجلون في لعبهم بالبنادق كما كان الحبشة يحجلون في لعبهم بالحراب ، والاختلاف بين البنادق والحراب اختلاف وسائل لا يؤثر في مضمون النمط هنا ، فكلاهما لعب بأداة حرب ، وكلاهما يمثّل قيمة الفروسية. ولعبة المزمار هي كذلك؛ فهي لعب بالعصيّ التي تقابل الحراب والبنادق، وهي تمثل الفتوّة والشهامة، فالمضمون الثقافي واحد، والتشابه في الشكل واضح، وهذا مثال بيّن على العلاقة الإيجابية بين أنماط الثقافة داخل منظومة ثقافية مشتركة، وهي علاقة التنوع والتناغم لا التضاد والتخاصم.
- د . خالد الغامدي