الفن قيمة وإبداع، وحينما يكون نافذاً فهو قيمة وإبداع وإرادةٌ فاعلة. الجماليات والفن يسعيان الى إحلال قيم جديدة حاضرة تطور من حوافز الحياة. الفن منبع للابتكار الذي نستطيع من خلاله تبني رؤية جديدة للعالم ومناهج وأفكار وقيم عليا جديدة، من دون هذا التجديد لا حياة ولا تطور للثقافة وتغييراً في مفاهيم المجتمع. ودائماً ما نرى في ثورة الفنون حجر في قعر الجمود، ونتعلّم كيف ساهمت الفنون في قَلْب مفاهيم قديمة وابتداع قيم جديدة. الفن دوماً سبّاق إلى اكتشاف آفاق جديدة والتخلّص من وطأة التقليد والاتباع، كل أشكال الفن منذ بداية القرن الماضي وحتى أيامنا ما فتئت تجدد ليس التقنيات فحسب، بل الأشكال والمضامين والمواد. للفن أسبقية اكتشاف أن النور حضور وحضور النور يعني آفاقاً جديدة.
القيم الجمالية وحدها باستطاعتها مجاوزة العدمية، لأنها هي القيم المؤكدة للحياة. وبالتالي نحن نعيد تأويل كل المنظور الجمالي إلى قيمة و أخلاقي ثم توظيف واع للثقافات. الهدم الذاتي أو «التشاؤم» النابع من قوة الحياة لكنها تنفي ذاتها كما في فلسفات شوبنهاور الذي يعود برغبته إلى العدم من أجل وضع حد للشقاء والألم وتبعه كثر منهم إميل سيوران وكولن وِلسون الذي استطاع إعادة صياغة الرواية بوجه فني جديد في محاولة حياكة أزمة وجودية جديدة وبلع المرء لذاته في قلب معاناة الانتماء .. ذلك التشاؤم المأساوي الذي يتبرم من فظاظة الحياة وليس اعتلال في الإرادة كما أنبأ عنه سقراط لكنها انطباعات إنسانية نقلت مفاهيم جديدة بطريقة أو بأخرى إلى مجتمعاتهم.
لكن يبقى سؤال: كيف يعتبر الفن مرتعاً لإنتاج قيماً جديدة؟ القول إن الفن هو من ابتكر الأساليب والرؤى والمنظورات ليس مبالغاً فيه لأنه اجترح آفاقاً جديدة وسبر أغوار العالم المعاصر وفك رموزه. هناك أمران أساسيان للانخراط الفعَّال الخلاّق في تعقّدات الواقع وتعضّل الحياة؛ المعاناة والانتصار وهما وجهان لأي ثورة في العالم، ومن رحم الأزمات خرجت التعبيرات الفنية المعاصرة. كل ما يصدم الإنسان ويستفزّ مشاعره بأي شكل من أشكال الفنون هو عامل كشف لرؤية هذا الفنان فالسمة الأساسية للفن هي التأزم أو «الأزمة».. والأزمة كما تفهم هنا هي محرّك فعّال للإبداع والابتكار.
نيتشه عرّف الفن إنه إرادة الحياة.. وأنا اذهب إلى أن الفن أجمل تأويلات الحياة لأن الفن يتمثل في انعكاسات وإسقاطات الثورة في الإنسان - ليس الثورة بمعنى ثورة، بل بمعنى أزمة أو تأزم - لذا الفن هو ابتكار.. فالتأويل والانطباع باقٍ ما بقي الإنسان.
- هتون السويلم