وُلِدْتُ لِقومٍ يقطنون في قرية نائية من قرى الأحساء.. أتعلم لم نائية؟.. لأنها آخر القرى، فبعدها تتجمع مياه ينابيع الأحساء الرشيقة في مجرى واحد لتتجمع في بحيرة في الصحراء الرملية المحيطة من كل صوب. تلك الأرض التي كانت جرداء فأحياها قومي بعد نزوحهم من نجد كما أخبرنا الجد الأكبر.
طفولتي كانت بعيدة عنها، ورأيتها لأول مرة بعمر 10 سنوات وهي خضراء، تعج بالنخيل وأشجار الرمان واللومي والتين والنبق وحقول البرسيم والخضراوات، تنساب فيها المياه بشبكة من السواقي المحفورة، لا يعيبها سوى أوصال من الأرض لم تستصلح بعد، ويفصلها سور مرتفع من أشجار (الإثل) عن محيط من الرمال البيضاء الحرّة، قيل لي إنه المشروع!... وإجابة على السؤال الذي ارتسم على وجهي قيل لي أن الملك سعود رحمه الله أنشأ مشروعاً لوقف زحف الرمال والحفاظ على الأرض المزروعة.
ما أن وطئت قدماي تلك الأرض حتى شعرت بالتصاق عجيب بها، وكأني ولدت للتو ولا أريد الفطام من أمي، أمشي وألعب وأمرح لا يهمني أشواك ولا جروح، افترش الرمل في المشروع بأمان لم أشعر به من قبل، لا يهمني حشرات أو سحالي أو عقارب أو ثعابين، أمان لا يمكن وصفه، يشعرني أني أملك نفسي، ومستعد للهو والتعلم وأداء الواجبات والحياة كلها دون توجيه أو تلقين... فجأة أصبح كل شيء في مكانه المألوف، وحتى الأشخاص كأني أعرفهم قبل أن أولد.
لم أعش هذا العشق للأرض ومن عليها سوى أيام قليلة ثم عدت إلى المدينة، حيث لا وجود للأمان ولا الألفة ولا ذلك التجمع المسالم المريح من الأطفال، الذين يبقون جزءاً من روحك حتى في الخصام، لا توجد عدوانيات ولا هواجس من الجيران كما المدينة اللعينة، وبقيت أستكمل دراستي وواجباتي وروحي ملتصقة هناك، أستجمع كل ما أوتيت من قوة من أجل التركيز لما هو بين يدي وأقاوم شرود العاشق لذلك الأمان الفطري.
وأنا الآن بعد ما تجاوزت الستين عندما أتذكر تلك الحياة القروية الجميلة أبقى حائراً، كيف سلبت القرية عقلي وروحي خلال أيام قليلة؟ من المفترض أن المرء يبقى رهينة لطفولته الأولى حتى لو في مدينة كلها حروب ونذالات وجفاء!... وكيف تخلقت تلك العلاقة الحميمية مع الأشخاص حتى لو كانوا أبناء عمومتي فقد كنت أراهم لأول مرة؟ هل العلاقة بالأشخاص موجودة بالجينات الوراثية؟ وإذا كانت موجودة فما سر الارتباط الروحي بالنخيل والشجر والحجر وحبات الرمل؟ هل هذا كله وراثي؟... لا يمكن أن يكون وراثياً بالطبع! ولكنه موجود رغم أنفي وأنوف من يدعي نكران أصله!
التفسير الوحيد الذي عثرت عليه والله أعلم، أن تلك الأرض الخلابة هي إنجاز اجتماعي، فبعد أن كانت قاحلة أصبحت مصدراً للعطاء، وهذا هو سر العشق الأبدي للأرض والوطن، ولا يمكن أن ينشأ في مدن يأكل فيها القوي حقوق آلاف الضعفاء دون رادع، ولا يمكن أن ينشأ لدى أشخاص تأكل ولا تزرع، ولا من يعيش بدوياً لا وطن له.
يقول بعض الشعراء والغاوين التابعين لهم إن العشق هو حب الذكر للأنثى أو العكس، وبالرغم من أنني لم التق رجلاً يحب امرأة واحدة فقط سوى في أساطير هؤلاء الشعراء، إلا أنني لا أنفي أن مجنون ليلى قد يكون قد جن بعض جنوني!... إنني أزعم أن العشق لا يوجد إلا للمنجز الاجتماعي! وإلا كيف تفسر أن سيف الدولة الذي كان شيخ قبيلته العظيمة، ويمتلك من المطارف والحشايا ما يمتلكه الملوك، فعافها ليسخرها كلها بالإضافة الى حياته في سبيل حماية المنجز الاجتماعي المسمى الحضارة الإسلامية؟ والتي بدأت تنهار بسبب تحكم الأقوياء واقصاء الضعفاء؟ وما سر تعلق أبو الشعراء تاريخياً وجغرافياً (المتنبي) به؟ هل هي المطارف والحشايا أم العروبة كمنجز اجتماعي، منذ (كنتم خير أمة أخرجت للناس) حتى الاستقلال عن بيزنطة في الشمال وبلاد فارس في الجنوب وبناء الإمبراطورية المترامية الأطراف؟
أعتقد أن أبو الطيب اتهم بادعاء النبوة لأنه أدرك اللحظة التاريخية التي برز فيها سيفاً كسيف الدولة مدافعاً عن المنجز الاجتماعي الحضاري! وجاء شعره مليئاً بالعشق والحرقة والعنفوان فأثار حفيظة ذوي الأنفس الرخيصة الذين يبيعون المنجز الاجتماعي للأجنبي بدم بارد! فاتهموه بالادعاء إياه! ولكن شخصه أرقى من أن يشوه، كما جرى تشويه شخص أبو نواس، الذي تنصل لمتطلبات قومه في العصر الذهبي وشرع يحابي السلطان.
- د. عادل العلي