د. عبدالحق عزوزي
وصل السيد ماكرون إلى عرش الإليزي منذ مدة يسيرة، وهو شاب يحمل مشاكل وانتظارات الملايين من الفرنسيين الذي ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم ولم يعودوا يثقون في النخب السياسية الفرنسية التقليدية التي طبعت الحياة السياسية منذ عقود. إيمانويل ماكرون، هو الآن أصغر رئيس منتخب لفرنسا منذ لويس نابليون بونابرت الذي صار في 10 ديسمبر/ كانون الأول 1848، أول رئيس منتخب للجمهورية الفرنسية في سن ناهز الأربعين عاما وثمانية أشهر.
يمثل ماكرون الذي يقدم نفسه بأنه «لا من اليمين ولا من اليسار»، نموذج الطبقة الفرنسية المثقفة، وفي ظرف ثلاثة أعوام تمكن الرئيس الجديد المنتخب إيمانويل ماكرون من الانتقال من مستشار للرئيس فرانسوا هولاند ليصبح ثامن رئيس للجمهورية الخامسة، وأصغر رئيس في تاريخ الجمهورية الفرنسية (39 عاما). قبل ثلاثة أعوام فقط لم يكن الفرنسيون يعرفون إيمانويل ماكرون الذي أسس حركته «إلى الأمام» لخوض أولى حملاته الانتخابية حيث قدم نفسه كمرشح «الوطنيين ضد القوميين»، ليزيح مرشحي الأحزاب التقليدية في فرنسا، ويصبح رئيس فرنسا الجديد خلفا للاشتراكي فرانسوا هولاند.
هاته المرة سيكون الموعد مع الانتخابات التشريعية، حيث التمثيلية الانتخابية للساكنة الفرنسية داخل قبة البرلمان، وحيث تكون المصادقة على شرايين الحياة اليومية للمواطنين وأعني بذلك القوانين، ومراقبة أعمال الحكومة وتكوين اللجان البرلمانية المختلفة باسم الشرعية التمثيلية الحقيقية التي يمتلكونها. والانتخابات التشريعية الفرنسية تجرى كل خمس سنوات لاختيار أعضاء الجمعية الوطنية، أي الغرفة الثانية في البرلمان الفرنسي إلى جانب مجلس الشيوخ. هذه الانتخابات لا تقل أهمية عن الرئاسيات لكونها تحدد الأغلبية البرلمانية في الجمعية الوطنية، أغلبية لها وزن في الحياة السياسية اليومية للمواطنين.
وبنفس الوتيرة المزلزلزة التي عرفتها الانتخابات الرئاسية، تصدرت حركة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون «الجمهورية إلى الأمام» وحلفاؤها الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية التي أجريت الأسبوع الماضي، وذلك بعد الحصول على 32.3 بالمائة من مجموع الأصوات، بينما حصل اليمين على 21.56 بالمئة متقدما على اليمين المتطرف. ومني الحزب الاشتراكي وهو حزب الرئيس هولاند، الخارج على التو من قصر الإليزي، بخسارة كبرى إذ حصل على 9.51 بالمائة بحسب النتائج الرسمية النهائية، وهاته الهزيمة هي هزيمة مدوية بالمقارنة مع الانتخابات السابقة في 2012 والتي منحت الحزب يومها الأغلبية المطلقة في الجمعية الوطنية.
في كل مناطق فرنسا تمكن مرشحو «الجمهورية إلى الأمام»، وكثيرون منهم حديثو العهد في حلبة الصراع السياسي، من تحويل المشهد السياسي في البلاد، وأزاحوا من طريقهم مرشحي اليسار واليمين ببساطة شديدة، وهذا دون احتساب الناجين من الحزبين التقليديين الذين أعلنوا عن تأييدهم للسيد ماكرون...
فالرئيس الفرنسي الجديد، الذي تعهد خلال الحملة الانتخابية بتغيير واسع في «النظام»، ينجح اليوم في استغلال النظام السياسي لصالحه كما لم يفعله أي توجه سياسي قبله. وحركته التي لا يزيد عمرها عن 15 شهرا استفادت من النظام الانتخابي ذي الدورتين للحصول على إحدى أكبر الأغلبيات البرلمانية التي شهدتها فرنسا في تاريخها، ما يعطي مؤسس الحركة إمكانية احتكار السلطة في البلاد إلى درجة أن العديد من الآباء المؤسسين للحياة السياسية المعاصرة في فرنسا لن يجدوا من تحليل لهاته الظاهرة، ظاهرة ماكرون السياسية، إلا القول بأن البلد يتجه إلى تكوين حزب مهيمن وهو يشكل خطرا على السياسة في فرنسا لأن المعارضة كمؤسسة لن يكون لها أي تواجد حقيقي في البرلمان .
ولكن غابت عن تحاليلهم السوسيولوجية، حالة الإحباط من الحزبين السياسيين التقليديين اللذين هيمنا على المشهد السياسي في البلاد طيلة عقود، فلم يعد الفرنسي اليوم يثق في التوجهات السياسية المألوفة ولا في ممثليها الذين عرفتهم فرنسا طيلة الأربعين سنة الأخيرة وهذا له أكثر من مائة مدلول في سوسيولوجية العلوم السياسية فيما يتعلق بالمجال السياسي العام، وإيديولوجية الأحزاب التقليدية، والعمل السياسي، ومسألة الثقة بين الحاكم التقليدي والمحكوم، والسياسات العمومية، وهلم جرا. هذا الزلزال السياسي العام، ستشتغل عليه العديد من التوجهات السياسية الجديدة التي ستخلق في الدول الغربية، وستقوي في نفس الوقت مناهج جديدة في الحياة السياسية الديمقراطية للدول الغربية، حيث تكون هناك إفرازات انتخابية باسم شرعية صناديق الاقتراع، لم تعهدها صفحات العلوم السياسية المقارنة.